Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

إعادة ابتكار الدولة: كيف يحوّل الابتكار الإدارة العمومية

الهزيتي محمد انوار.. خبير في التنمية الترابية وإصلاح الإدارة. عضو المعهد الدولي للعلوم الإدارية

في عالم يشهد تطورًا سريعًا في التكنولوجيا وتغيرًا مستمرًا في انتظارات المواطنين، لم يعد الابتكار رفاهية مقتصرة على القطاع الخاص. ففي جميع أنحاء العالم، تتبنى الحكومات تقنيات وأساليب وعقليات جديدة لإعادة ابتكار أنظمتها الإدارية. فبعد أن كانت تُعتبر مؤسسات بيروقراطية جامدة، بدأت الإدارات العمومية اليوم تتطور لمواجهة تحديات العصر الحديث، من خلال التركيز على الكفاءة، والاستجابة السريعة، والخدمات التي تركز على المواطن. هذه التحولات تعيد تشكيل العلاقة بين الحكومات والمرتفقين، وتفتح آفاقًا جديدة لتقديم الخدمات العمومية في المستقبل بشكل أفضل.

 

ثورة صامتة داخل الدولة

بالنسبة للكثيرين، قد تبدو فكرة الابتكار داخل الدولة أمرًا متناقضًا. فالحكومات تُصوَّر تقليديًا على أنها بطيئة، مثقلة بالبيروقراطية والمساطر المعقدة. ومع ذلك، فقد حدثت في السنوات الأخيرة ثورة صامتة خلف الكواليس، حيث يعمل الموظفون العموميون، وصانعو السياسات، والتقنيون معًا لتحدي الوضع القائم. ويتمثل جوهر هذا التحول في الالتزام باستخدام أدوات ومنهجيات مبتكرة لتحسين تصميم الخدمات العمومية وتقديمها.

الدافع وراء هذا التوجه واضح: تواجه الحكومات ضغوطًا متزايدة لتقديم المزيد بموارد أقل. فبين انتظارات المواطنين المتزايدة وقيود الميزانية العمومية، لم تعد الأساليب القديمة كافية. ونتيجة لذلك، يتزايد التوجه نحو تحديث الإدارة العمومية لإنشاء أنظمة أكثر كفاءة وشفافية وتشاركية، تلبي احتياجات المجتمعات المعقدة في عصرنا.

 

دور التكنولوجيا في الإدارة العمومية

في قلب هذا التحول نجد اعتمادًا واسعًا للتقنيات الرقمية، حيث تستفيد الحكومات بشكل متزايد من قوة الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والحوسبة السحابية لتبسيط المساطر الإدارية، وتحسين تقديم الخدمات، واتخاذ قرارات مدروسة. وتساعد هذه الأدوات الحكومات على إدارة الموارد العمومية بشكل أفضل، وتعزيز تحليل السياسات، وتوفير خدمات أكثر قربا للمواطنين.

ويمكن أخد إستونيا كمثال لدولة أوروبية حديثة وصغيرة أصبحت رائدة عالميًا في الحكامة الرقمية. فقد نفذت الحكومة الإستونية أنظمة إدارة إلكترونية تتيح للمواطنين الوصول إلى جميع الخدمات العمومية تقريبًا. من التصويت إلى دفع الضرائب وطلب التراخيص والوصول إلى السجلات الطبية. ويمكن للمواطنين إدارة تعاملاتهم مع الدولة عبر هوية رقمية آمنة. وأدى هذا النموذج إلى تقليص البيروقراطية، وخفض التكاليف، وزيادة رضا المواطنين من خلال جعل الخدمات أسرع وأكثر كفاءة وأسهل في الوصول.

وفي كندا، أنشأت الحكومة الفيدرالية مختبرًا للابتكار في السياسات يسمى “مختبر الابتكار في السياسات”، يساعد الموظفين العموميين في تطوير واختبار وتنفيذ أفكار جديدة لحل التحديات المعقدة في السياسات العمومية. فمن خلال توفير بيئة تجريبية، يُمكن لصناع السياسات اختبار حلول جديدة قبل تطبيقها على نطاق واسع، مما يقلل من خطر الفشل ويشجع على الإبداع.

 

التصميم المتمركز حول الإنسان ومشاركة المواطن

أحد التغييرات الأهم في مجال الابتكار الإداري هو الاهتمام المتزايد بتصميم الخدمات حول احتياجات الإنسان. تاريخيًا، غالبًا ما صُممت الخدمات العمومية من أعلى إلى أسفل، دون إشراك كبير للمواطنين. أما اليوم، فتعيد الحكومات التفكير في هذا النهج من خلال وضع احتياجات المواطنين وتجاربهم وآرائهم في قلب تصميم الخدمات.

يعني التصميم المتمركز حول الإنسان إنشاء سياسات وخدمات ومنصات رقمية بسيطة وسهلة الاستخدام، حيث تُصمم لتلبية الاحتياجات الحقيقية للمرتفقين. ويُجسد هذا النهج في “خدمة الحكومة الرقمية” البريطانية، التي أعادت تعريف كيفية تقديم الخدمات العمومية عبر الإنترنت. من خلال تبسيط الواجهات الرقمية وتوحيد تجربة المستخدم عبر الخدمات الحكومية المختلفة، جعلت هذه المقاربة التنقل في الخدمات الحكومية المعقدة أسهل للمواطنين، مثل طلب الإعانات أو تقديم الإقرارات الضريبية.

كما تُدرك الحكومات بشكل متزايد أهمية مشاركة المواطنين في عملية صنع القرار. لتعزيز الثقة والشرعية الديمقراطية، حيث تتبنى العديد من الإدارات نماذج جديدة لمشاركة المواطنين، مثل الموازنة التشاركية، والاستشارات العامة، ومبادرات التكنولوجيا المدنية. في بلدان مثل البرازيل والهند، تمكّن عمليات الموازنة التشاركية المجتمعات المحلية من تقرير كيفية توزيع النفقات العمومية، مما يمنح المواطنين دورًا مباشرًا في كيفية استخدام ضرائبهم. وتعزز هذه المبادرات ليس فقط تمكين المواطنين، بل تضمن أيضًا أن تعكس السياسات احتياجات وأولويات فئات متنوعة من السكان.

 

إزالة الحواجز البيروقراطية

رغم أهمية الأدوات التكنولوجية ومشاركة المواطنين، فإن التغيير الثقافي داخل المؤسسات الحكومية لا يقل أهمية. فلسنوات طويلة، كبلت الإدارة العمومية بهياكل جامدة ومساطر صارمة وثقافة الخوف من المخاطرة. وبالتالي فالتغلب على هذه الحواجز ضروري لتعزيز قطاع عمومي أكثر ابتكارًا ومرونة.

لمعالجة هذا التحدي، تُنشئ العديد من الحكومات مختبرات للابتكار أو “وحدات التنفيذ” داخل الإدارة العمومية. وتعمل هذه الوحدات مثل الشركات الناشئة داخل الحكومة، تختبر أفكارًا جديدة، وتُجري تجارب، وتقيم النتائج قبل تعميمها. على سبيل المثال، تتعاون وكالة GovTech في سنغافورة مع القطاع الخاص والساكنة المحلية لتطوير حلول تقنية جديدة للخدمات العمومية. ومن خلال تبني نهج مرن وموجه نحو النتائج، تشجع وحدات الابتكار هذه على التجريب وتعزز ثقافة التحسين المستمر.

 

قوة التشاركية في بناء الخدمات

أحد التطورات الواعدة في مجال الابتكار الإداري هو الوعي المتزايد بأن الحكومات لا يجب أن تبتكر بشكل منفرد. بل على العكس، يُدعى المواطنون، والشركات، ومنظمات المجتمع المدني إلى المشاركة في إنشاء الخدمات العمومية جنبًا إلى جنب مع المؤسسات الحكومية. من خلال فتح عملية صنع السياسات وإشراك المواطنين في اتخاذ القرار، وتستفيد الحكومات من كم هائل من الأفكار والمعرفة والخبرة التي كانت ستظل غير مُستغلة.

تشمل الأمثلة على ذلك الهاكاثونات المدنية، ومنصات جمع الأفكار، ومبادرات البيانات المفتوحة. ففي بلدان مثل السويد وفنلندا، تتيح المنصات التشاركية للمواطنين اقتراح سياسات وخدمات جديدة، والتصويت عليها، والمشاركة في تطويرها. لا تعمل هذه الجهود فقط على تحسين جودة الخدمات العامة، بل تعزز أيضًا العلاقات بين الحكومات والمرتفقين.

 

الطريق إلى المستقبل: مأسسة الإبتكار

رغم هذه النجاحات، لا يزال الطريق طويلًا نحو إدارة عمومية مبتكرة بالكامل. وأحد التحديات الرئيسية التي تواجهها الحكومات هو ضمان أن يصبح الابتكار جزءًا إجباريا من الهياكل الإدارية، لا مجرد سلسلة من المبادرات المؤقتة. ولتحقيق ذلك، يجب على الحكومات الاستثمار في تطوير المهارات الرقمية في القطاع العمومي، وإصلاح قواعد الصفقات العمومية لتشجيع التجريب، وضمان الشفافية في استخدام البيانات والتقنيات.

ومع تلاشي الحدود بين انتظارات المواطنين ومعايير القطاع الخاص، يجب على الحكومات التكيف والتطور لموائمة عالم دائم التغير. وبالتالي يكمن مستقبل الإدارة العمومية في قدرتها على تبني ثقافة الابتكار — ثقافة تبحث باستمرار عن حلول جديدة للمشاكل، وتحسّن الخدمات، وتلبي الاحتياجات المتغيرة للمواطنين. فالحكومات التي تتبنى الابتكار لن تعزز فقط قدرتها على تقديم خدمات فعالة وكفؤة، بل ستبني أيضًا قطاعًا عموميا أكثر مرونة واستجابة، قادرًا على مواجهة تحديات عالم معقد ومترابط على نحو متزايد.

Exit mobile version