Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

الاقتصاد بحقيبة ظهر: حين تتحول الدولة إلى مهرب رسمي

في لحظة نادرة من الانفصال التام عن الواقع، اختار النظام الجزائري أن يضع توقيعه على مرسوم لم يكن ينقصه سوى ختم السخرية الرسمية: “تقنين التهريب”.

هكذا، وبكل بساطة، تقرر أن يصبح حشو الحقائب بالبضائع الأجنبية وظيفة مشروعة، وأن يُعامل من يمارسها كفاعل اقتصادي معترف به، لا كمهرب أو تاجر سوق سوداء، بل كـ”مُستورِد ذاتي”، كائن هجين بين السائح والمقاول، تتلخص أدواته في تذكرة سفر، وكيس بلاستيكي متين، وحساب صغير باليورو.

لقد ولّى زمن الطموحات الصناعية، وتلاشى معه حلم السيادة الاقتصادية. فبدل أن تُبنى المصانع، يُدشَّن اليوم اقتصاد قائم على “الشامبو”، “الجبن التركي”، وعلب شوكولاتة مستوردة تُخزن تحت الأسرة ثم تُباع على قارعة الطريق.

هذه ليست مجرد انحرافات جانبية لنظام مأزوم، بل صارت جوهر السياسة الاقتصادية: اقتصاد فردي، بلا إنتاج، بلا هيكلة، وبلا مشروع.

فكرة “المستورد الذاتي” ليست وليدة عبقرية اقتصادية، بل نتيجة مباشرة لذهنية تحكمها الشعبوية، وتغذيها الرغبة في شراء الوقت، بأي ثمن.

حين تعجز الدولة عن خلق فرص العمل، أو تأمين العيش الكريم، فإنها تفتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى، وتمنحها طابعًا قانونيًا، وتصفق لها كحل عبقري. لكنها في الحقيقة تُنتج وحشًا جديدًا: اقتصاد بلا مؤسسات، ولا ضوابط، ولا مسؤولية.

في هذا النموذج الغريب، يدفع المستورد الرسمي 60% من الرسوم الجمركية، بينما يُكافأ حامل “الكابة” بامتيازات استثنائية، ولا يُطالب حتى بسجل تجاري.

يُمكنك اليوم أن تستورد بقيمة 24 ألف يورو شهريًا، بشرط أن تكون عاطلًا عن العمل وتشتري العملة من السوق السوداء.

إنه تبييض ممنهج للعملات المشكوك في مصدرها، لكنه يتم تحت مظلة الدولة. الدولة التي، بدل أن تضرب السوق الموازية، تغذيها، وتنظمها، وتمنحها شرعية.

الأكثر فداحة أن هذه السياسة لا تُهدر فقط العملة الصعبة، بل تُقوّض ما تبقى من ثقة في مؤسسات الدولة.

فما الرسالة الموجَّهة للمستثمر الحقيقي؟ ماذا تقول هذه الدولة لمن قرر أن يفتح ورشة أو مصنعًا؟ الرسالة واضحة: لا مكان لك في هذا الاقتصاد، المنافسة غير نزيهة، والقواعد لا تُطبق على الجميع.

هكذا يُعاد تشكيل المشهد الاقتصادي: الوزارات تتحول إلى هياكل صورية، والموانئ إلى محطات تهريب مقنّن، والسوق إلى متاهة من البضائع بلا مصدر ولا ضمان، فيما الجمارك تتحول إلى شاهد زور.

أما المستهلك؟ فقد تُرك يتخبط في بحر من السلع المغشوشة، والأدوية المهرّبة، وأجهزة إلكترونية بلا معايير ولا حماية.

ولا تتوقف الخسائر عند هذا الحد. هذا الانفلات يُفاقم انهيار الدينار، ويضرب القدرة الشرائية، ويحوّل السوق السوداء إلى سلطة فعلية تُحدد الأسعار، وتُدير التداول، وتُوجه السياسات من وراء الستار.

اليورو، الذي كان يومًا عملة سفر وسياحة، أصبح الآن مكوّنًا في وصفة بقاء اقتصادي زائف، لا ينتج سوى الوهم.

والأسوأ من كل ذلك، أن هذه العبثية أصبحت تُسوَّق كإنجاز. يُحتفل بها في الخطب، ويُروَّج لها في الإعلام، وتُقدَّم كدليل على “المرونة”.

لكنها في حقيقتها ليست سوى إعلان عن إفلاس الدولة كجهاز عقلاني منظم. فمن يتخلى عن تنظيم السوق، ويتحول إلى وسيط في اقتصاد غير رسمي، يتخلى فعليًا عن دوره التاريخي.

ما يحدث في الجزائر اليوم ليس مجرد ارتباك اقتصادي، بل تحوّل جذري في شكل الدولة نفسها.

دولة تقف على عتبة التخلي عن وظائفها الأساسية، وتُسلّم مفاتيح القرار للمنفعة الظرفية، حتى ولو كان الثمن هو ضياع أي أفق تنموي.

في النهاية، حين تصبح الحقيبة مشروعًا، والسوق السوداء سياسة عمومية، والتهريب نشاطًا مرخصًا، فلا داعي للحديث عن النمو، أو الاستثمار، أو الاستقرار. نحن أمام نظام لم يفقد فقط القدرة على التخطيط، بل تخلّى طوعًا عن معنى الدولة.

 

 

Exit mobile version