Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

الصحافة والتوظيف..سلطة رابعة أم أداة ناعمة؟

إدريس عدار*
لم يكن الذي أطلق مصطلح السلطة الرابعة على الصحافة من الصحفيين، فكان أول من سماها هو المفكر البريطاني الإيرلندي إدموند بيرك في كتابه “الأبطال وعبادة البطل”.
في اعتقادي أن من أطلق هذا الاسم كان يسعى إلى أهداف لا تخدم الصحافة، في وقت كانت تتصارع السلط الثلاث (الحكومية والتشريعية والقضائية) على الهيمنة على المشهد، وبما أن الصحافة منذ ميلادها حظيت ببريق كبير فقد ظل الجميع يخطب ودها، ليس حبا فيها ولكن بما أنها الأداة التي يمكن أن تؤثر في باقي السلط.
فاللحظات التي كانت فيها الصحافة ذات نفوذ وقدرة على التأثير في القرار هي اللحظات المسبوقة بمقاومة قوية للتخلص من قبضة باقي السلط.
لا تكاد الصحافة تنفك من فخاخ التوظيف..
في الفيلم الأمريكي “Bombshell” (المفاجأة المذهلة)، الذي تلعب فيه الممثلة نيكول كيدمان، دور البطولة، نعيش قصة صحافيات يردن إزاحة الرئيس المدير العام عن القناة، في تصاعد الأحداث تبدأ القصة مع مذيعة الشبكة غريتش كارلسون التي قامت برفع دعوى قضائية ضد الرئيس “روجر آيلز”. تكشف ثنايا حراك الصحافية أنها أغضبت أنصار ترامب بسبب تعرضها لمواقفه تجاه المرأة.. لكن القصة لا تقف هنا، سنفهم أن القنوات الأمريكية منخرطة بشكل واضح في دعم السياسيين الذين يمثلون “تجمعات للمصالح”.
قد ينخرط المشاهد في متعة متابعة الأحداث، وهي واقعية باعتبار الفيلم وثائقي تشخيصي، وينسى أن القناة معادية لترامب، فالقصة تكشف الاستغلال مرتين، الأولى من قبل “رئيسها في العمل”، حيث قدمت الجنس مقابل ترقيها لتصبح إعلامية كبيرة، والثانية أنه تم توظيفها في الحملة ضد ترامب، حيث ستتعرض الإعلامية لحملة تشهير من قبل قناة كبرى موالية لترامب…
لم أخرج من الفيلم، عند مشاهدته، بخلاصة ولكن بسؤال: إلى أي حد يمكن للصحافة أن تفلت من مخالب رجال السياسة غير المنفلتين بدورهم من مخالب رجال المال والأعمال؟ هل فعلا أطاح بووب وود بالرئيس نيكسون أم أنه كان الأداة التي تم استعمالها من قبل جهات موازية لإسقاطه؟
الصحافة تصارع جميع السلط لكن هل بمقدورها الحفاظ على سلطتها الموسومة بها حقا أو باطلا؟
إذا ما تحدثنا عن بلادنا يمكن أن ننزل بهذه الأسئلة بشكل كبير، وذلك لغياب التقاليد العريقة في الصحافة، وثانيا لهشاشة الوضع العام، وثالثا لغياب النموذج الاقتصادي الذي يحمي الصحفى والصحافة من “التوظيف”.
عندما تأسست النقابة الوطنية للصحافة المغربية، كانت مكونة من مدراء الصحف وعندما نتحدث عن مدراء الصحف في تلك الفترة لا نتحدث عن “باطرونا” أو “مقاولين”، لكن عن “مناضلين” لأن هذه المهمة قد تؤدي إلى السجن والاختطاف وغيرها، وكانت الصحافة غير العمومية في أغلبها تقوم على أكتاف “مثقفين مناضلين”.
لهذا لم تكن قضية الحقوق الاجتماعية والمهنية للصحفيين مطروحة بشكل نهائي. كان عنوان المرحلة هو الدفاع عن “حرية التعبير” وهي قضية الصحافة بدءًا من الجهة الناشرة، الحزب والنقابة والجمعية أو من ارتبط بهم، مرورا بالمدراء والصحفيين والكل.. وكانت كل الصحافة تعيش معضلة واحدة “حرية التعبير”، بما فيها الصحافة الثقافية وكان إصدار مجلة من حجم أنفاس يحبس “الأنفاس”.
مع التحولات التي عرفتها المهنة ظهر جيل من المشتغلين في الصحافة غير العمومية لكن مهنتهم هي الصحافة، وهنا سيظهر الفرز بين الصحافي والمشغل، وأصبحت الصحافة الحزبية أيضا مشغلا، بل كانت في وقت من الأوقات هي أكبر مشغل، وهنا ستظهر الحاجة إلى عنوان جديد، يحافظ على مكتسبات “حرية التعبير”، لكن ينصب على حقوق الصحفيين، فوقع الفرز وأصبحت النقابة للصحفيين، في حين أسس الناشرون إطاراتهم المهنية، ولم نعد أمام مدراء ولكن مقاولين أو “باطرونا”، مما حتم على النقابة أن تصبح رافعة نضالية لحقوق المهنيين.
وضع جديد فرض أساليب جديدة وتنظيما جديدا، كما فرض مطالب جديدة، ناهيك عن أن التطورات المحلية والإقليمية والدولية وتيار حقوق الإنسان العالمي وكل هذه العوامل ساهمت في تبني الصحفيين لمطلب “التدبير الذاتي للمهنة” على غرار باقي نظرائهم في العالم. وجاء “المجلس الوطني للصحافة”. هذه تجربة تحتاج إلى ندوة بحد ذاتها لتقييم وتقويم سنواتها الأولى، خصوصا وأنها لحد الآن متعثرة بل رأينا محاولات تشريعية للالتفاف عليها..
لا أعتقد، الآن، أننا مازلنا في المرحلة التي عنوانها “الدفاع عن حقوق المهنيين وحمايتها”. وهو مطلب قائم وعنوان دائم، لكننا دخلنا مرحلة جديدة لم أحدد لها عنوانا ولكن يمكن وصفها بالهجينة. هذا التعبير ليس قدحيا. فمع ظهور الصحافة الرقمية ظهرت مقاولات صغيرة وأحيانا تضامنية. ليس فيها باطرون ولا عاملون، ولكنهم يجرون سفينة واحدة.. مدير الموقع قانونيا هو ناشر، لكن عمليا هو صحفي مثله مثل من معه. وكثير من أعضاء النقابة النشيطين في مثل هذه الحالة.. إذن هنا أضيف عبئًا آخر على النقابة هو النضال من أجل “حماية ليس الحقوق فقط ولكن “الوجود أيضا”.
فمطالب هؤلاء الصحفيين، المقاولين تضامنيا، ليس من باب حقوق الصحفيين تجاه أرباب العمل ولكن من باب الحقوق تجاه الآخر، السلطة، أصحاب المال والأعمال، من أجل ضمان الوجود.
كما يطرح إشكال بين الصحفيين. عندما تقع خصومة بين “الصحفيين المتضامنين” يقدمون شكاوى ضد المدير “الصحفي المتضامن”، إلى النقابة والمجلس الوطني للصحافة وحتى المحكمة.
عود على بدء، وقصة “التوظيف”، أقول:
في هذا الوقت الذي نفكر فيه نحن في ضمان حقوق الصحفيين وفي وجود الصحافة، هناك من يفكر في “عدمها”. الإعدام اليوم يتم عبر الموت البطيء.
إحدى الأطروحات الرائجة اليوم، وكانت من قبل ولم تنجح، تقول بضرورة جمع الصحافة في أقطاب كبرى. طبعا هذه الأطروحة فكرت في المال والتمويل ولم تجب عن سؤال اختلاف الأمزجة والرؤى. هناك محاولة للتمييز بين الصحافة الكبرى والصغرى. بنظري هي مفردات من باب “المسامحة اللغوية، فقط. وإلا ما معنى الكبير في هذه البلاد التي لا يتعدى عدد من يقتني الصحيفة حوالي 25 أو 30 ألفا؟
ويدفع البعض بحسن نية في هذا الاتجاه بدعوى أنه من شأن ذلك أن يعالج الاختلالات التي يعرفها المشهد وخصوصا المغلفة بأخلاقيات المهنة.. أرى أن هذا الاستدلال ساقط لأن واحدة من الصحف، والمواقع المحسوبة كبيرة من أكثر منتجي الإشاعات بل إن أغلب موادها الإعلامية عبارة عن “روتيني اليومي”، كما تقوم باختلاق الوقائع التي تحولها إلى مادة إعلامية. بينما يوجد موقع صغير في بلدة صغيرة يقتصر تمويله على وحدة سياحية لكن لم يحدث أن نشر خبرا زائفا.
الفيصل هنا القانون والمعيار الخضوع لأخلاقيات المهنة والتمايز للمنتوج الجيد.
لهذا تبقى معركة تجويد القوانين مفصلية. في إطار النهوض بالمهنة وإنهاضها وليس استعمال القوانين لقتل جزء كبير من الصحافة لفائدة جزء واحد. سأبقى على إصراري في حماية وجود كل التعبيرات الصحفية ودعمها والوصول إلى حيث يوجد الصحفيون من أجل تكوينهم والارتقاء بهم.
لا يمكن الحديث عن حقوق للصحفيين وكرامة للصحافة في غياب نموذج اقتصادي واضح المعالم، ومن باب الموضوعية أن يعرف الصحفي مع من يشتغل ويعرف القارئ انتماء الصحفي .
كيف تحافظ الصحافة على سلطتها في وجود سلطة أكبر. يبدو أن الصحافة قد تمكنت من إيجاد “تعالق” مع كافة السلط في إطار “أنت فاهم وأنا فاهم” لكن السلطة التي لم تتمكن الصحافة إلى اليوم من ضبط علاقتها بها هي سلطة المال، التي تهيمن على كل شيء.

* مشاركة في الندوة التي نظمها فرع القنيطرة للنقابة الوطنية للصحافة المغربية الجمعة الماضي احتفالية بمناسبة الذكرى الستون لتأسيس الناقبة تخللتها ندوة تحت عنوان “النقابة الوطنية للصحافة المغربية “رُؤى متقاطعة”، ساهمت فيها إلى جانب الزملاء عبد الكبير اخشيشن ومليكة مهني ومحمد العوني..اخترت لمشاركتي عنوان “الصحافة والتوظيف… الترافع من أجل نموذج اقتصادي يضمن الاستقلالية للمقاولة الإعلامية وكرامة الصحفي”.

Exit mobile version