عبد الله الغرباوي
قيل أن “إرضاء الناس غاية لا تدرك”، خاصة إذا كانت نفوس بعضهم عليلة وبها سقم ورهاب مزمن. ومع ذلك فتوضيح الملتبس وإنارة مناطق الظل في الخطاب والسلوك تظل غاية لا تترك وإن لم تدرك بما فيه الكفاية.
اطلعت على بلاغ مشترك للمديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني والمديرية العامة للدراسات والمستندات وتلقيت خبر إقدام هذه المؤسسات الأمنية على رفع شكاية أمام النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية بالرباط في مواجهة أشخاص يقطنون خارج المملكة، وفكرت في الامر بنفس منطق تفكيري في لجوء مؤسسات أخرى غير أمنية إلى القضاء. لكن تبين أن هناك من يغير زاوية نظره إلى الأشياء كما يغير جواربه ويقيس الأمور بأكثر من مكيال. وبين هذا وذاك تضيع الموضوعية ويهدر الحياد وتزيف الحقائق ويراد بالأمور أضداها.
صدر البلاغ، الذي كان من المفترض أن يتم قبل هذا التاريخ بكثير، فإذا بالدبابير تخرج من أعشاشها، معنيا كان أو متقمصا أدوارا ولو من باب الكومبارس، وكالعادة مصرون على البحث عن السواد فقط لإغلاق كل نوافذ يمكن أن تهب منها رياح تغيير العقائد السلبية وفقط لإشباع رغبات مرضية، ممعنون دوما في عدم مراجعة منطق إدراك ما يجري إلا من ثقب المؤامرة ومقولة “لا شك أنه فعل دبر بليل”.
إذا التبس عليك الأمر وبك حاجة لفهم كل ما استشكل، يكفيك أن تفعل أحد أمرين، فإما إن تعود بها أصولها أو تدفع بها الى الأمام لتبغ منتهاها. من هذا المنطلق سأقتصر على طرح تساؤلات تجمع بين الإثنين أملا في أن أتلقى بعض الجواب.
أولم يبلغكم أن لجوء المؤسسات الأمنية إلى القضاء تقليد لا تعرفه إلا أعرق الديمقراطيات؟ لأن هذه المؤسسات في بيئات العوز الديمقراطي لا تشتغل بهذه الشفافية، كما لا تحتاج إلى سلطة قضائية لتنفذ بها أمرا، فلها من الأساليب ما تضمن به النتيجة بفعالية وبسرعة أكثر، ولا شك أن المتسترين وراء الجنسيات الأجنبية يعرفونها جيدا.
ألم يكن بإمكان هذه المؤسسات الأمنية سلك ممرات أخرى مغايرة؟ فالمؤسسات الأمنية في زمن الأجهزة أبدا لم تكن تلتجئ إلى القضاء، فقد كانت هي الحل والعقد، لكن ألم ترو في لجوئها إلى القضاء مؤشرا دالا على تصرفها وفقا لما يسمح به القانون والدستور وتقيدا منها بواجب احترام اختصاص المؤسسات مهما كان مركزك ومهما بلغ شأنك؟
ثم أي جرم هذا الذي اقترفته المؤسسات الأمنية في اللجوء إلى القضاء؟ فإذا لم تلتجئ إلى القضاء فماذا عساها أن تفعل في نظركم؟ أن تكون الطرف والحكم؟ أن تصدر القرارات وتنفذها؟ أم أن هذه المؤسسات ليست لها حرمة يجب أن تصان واعتبار يتعين أن يحفظ؟
ليس في اللجوء إلى القضاء خطيئة، فلو لم تفعل لكانت هذه المؤسسات بالفعل أتت أمرا منكرا ووقعت في الخطيئة وسقطت في المسؤولية التقصيرية تجاه المؤسسات لإقامة الاعتبار الواجب لها كغيرها من المؤسسات الدستورية، وتجاه أفرادها لعدم التدخل لحمايتهم من تبعات حملة التحريض ضدهم، وتجاه المجتمع بالامتناع عن تحصينهم من الغوغاء والبادئ من الكلام وتمنيعهم من سموم الخطاب الزائف.
ثم أي منطق هذا، بل أي رعونة هذه، التي تعطي الفرد الحق في تجريد مؤسسة امنية من اللجوء إلى القضاء، ويستحيل بذلك سلك سبل الانتصاف القضائي عيبا أو جريمة وليس ممارسة مواطنة وتمرينا ديمقراطيا.
لم تجف صحف التجريح ضد المؤسسات الأمنية حتى مروا، بسرعة فائق، إلى رفع معاول الهدم ضد القضاء، بالتشكيك في استقلاليته المؤسساتية والفعلية، حتى قبل مباشرة المساطر بمواصلة البت في القضية أو حفظها. ناسين أو متناسين سلسلة القرارات والأحكام القضائية الصادرة لصالح مشتكين ضد المؤسسات الأمنية. فإذا لم تكن السلطة القضائية محصنة من العبث فلماذا لم يتم التأثير عليها بمناسبة نظرها في هذه القضايا، وبعضها كان يهم جوانب حساسة من زاوية حقوق الإنسان، كادعاءات التعذيب وسوء المعاملة؟ بل الأكثر من ذلك فالمؤسسات الأمنية في أكثر من مناسبة لم تكتف بعدم الاعتراض على هذه الاحكام القضائية، بل نفذتها بحسن نية، ويكفي كل مشكك أن يعود إلى الإحصائيات المتعلقة بتنفيذ الإدارات العمومية للأحكام القضائية. وإذا تعلق الأمر بأفراد منتمين إلى هذه المؤسسات فجزاؤه تنفيذ الحكم القضائي وتحريك مسطرة المساءلة الإدارية أيضا.
أليس في المغرب وخارجه معارضون ومعارضات، يتحدثون تفكيكا وتركيبا وتشريحا في قضايا وطنية راهنة، بل يخوضون فيما أجمع عليه المغاربة بكونه ثوابت جامعة للأمة، لماذا في نظركم لم تحرك هذه المؤسسات أي شكل من أشكال المتابعة جنائية كانت أو مدنية ضدهم؟ لماذا همت هذه الدعوى فقط أفرادا محسوبين عدة وعددا؟ الجواب بالطبع واضح، وهو أن هناك مسافة امان بين السب وحرية التعبير، بين الإهانة وحرية الرأي، بين ممارسة حق المعارضة وممارسة الابتزاز، بين الدعوة إلى الإصلاح والدعوة إلى الفتنة، بين الحق في نقل الخبر والتحريض على العنف والكراهية، بين أن يملي عليك ضميرك ما تفعله وما تفكر فيه وأن تسخر كالمدفوع له.
سئل جون بول سارتر عن الحرية فقال هي المسؤولية، فالتعبير عن الرأي يقتضي قبل كل شيء قدرا من المسؤولية وقليلا من المروءة ونزرا من الغيرة على الوطن. والوثوق في الخطاب يقتضي مخاطبا صادقا وأمينا، وليس مخاطبا وصوليا مسترزقا مبتزا ومدفوع له. ولكن للأسف ففاقد الشيء لا يعطيه.
لقانون الصدفة حدود حتى وإن سلمنا بوجوده أصلا، فأولا ألا تتكرر الصدفة، وإن حدث أن تكررت فمن غير المقبول أن تعاد بنفس الشكل والمضمون. بهذا المنطق أسائل جوقة “اليوتبرز” هل صدفة صرتم على قلب رجل واحد تتحدثون عن مواضيع موحدة بألفاظ متقاسمة وفي زمان واحد وتستهدفون خصما واحدا لتطلقوا عليه نبال مختلفة، أم أن خلف الركح ضابط إيقاع موزع أدوار مطلق للإشارات وممسك بآلة التحكم عن بعد، همه في كل هذا هو استهداف الوطن عبر مؤسساته ورموزه.
اللجوء إلى القضاء حق أم جريمة؟
