Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

المغرب “أبو الدنيا..”

محمد عفري
كلما تذكرت المباراة الشيقة التي دارت أطوارها بين المنتخب المغربي ونظيره المصري ذهابا وإيايا، في صيف 1985، في إطار الإقصائيات المؤهلة لكأس العالم 1986، تذكرت تنافس جمهور البلدين في التشجيع بعبقرية فذة، يغلفها حِسّ الوطنية الحقة والمواطنة الصادقة ويتعداها في بعض الأحيان إلى “شوڤينية” ظاهرة للعيان، بالخصوص لدى جماهير الشقيقة مصر، التي كانت ما تزال تتغذى، آنذاك، على مفاهيم القومية، أكثر من غذائها من حضارتها التاريخية الضاربة في الزمن الفرعوني. لم تكن هناك لا “إلتراس” ولا “تيفوهات” ولا إبداع فني تهيمن عليه السينوغرافيا على المدرجات كما هو اليوم، لكن الأعلام الوطنية والتغني بالأناشيد الوطنية وملاحم التحديات للبلدين واليافطات المتضمنة لشعارات لافتة إلى هذه الملاحم، لشحذ همم لاعبي منتخبي البلدين وتحميسهم، كانت حاضرة بقوة، بشكل عفوي وبآخر مدروس، لأن فوزا للمنتخب “القومي” المصري لكرة القدم، مثلا، كان يعني “تخديرا” متوسط أو طويل المدى لشعب مصر السادات أو حسني مبارك، إن لم يكن يتعداه إلى شراء سلم اجتماعي حسب الظروف، وتلك كانت سُنّة غالبية الدول العربية في علاقات السلطة بالشعوب، عبر الرياضة عامة وكرة القدم بالخصوص.
في الذهاب الذي دار بملعب القاهرة الدولي في الجمعة 12 يوليوز وبحضور جمهور قياسي، تعذَّر الفوزُ على أصدقاء الخطيب ومجدي وإبراهيم يوسف وميهوب وأكرمي، وانتهى اللقاء على بياض، وفي خدمة المنتخب المغربي في الإياب. لكن الذي كان مثيرا هو اللافتة الكبيرة التي كان يرفعها جمهورُ مصر في جانب من مدرجات الملعب، كُتِب عليها بالبنط العريض عبارة “مصر أم الدنيا..” وكان مُخرج اللقاء للتلفزة المصرية يركِّز كثيرا عليها، بالشكل الذي يركز على صورة الرئيس مبارك مُثْبَتة على المدخل الرئيسي إلى المنصة الشرفية للملعب “المَعْلمة”.
في الإياب الذي دار بملعب المركب محمد الخامس بالدار البيضاء، يوم الأحد الثامن والعشرين من يوليوز، استطاع أصدقاءُ الزاكي والظلمي والبياز وكريمو هَزْمَ “منتخب الفراعنة” بهدفين لصفر من تسجيل التيمومي وبودربالة، ليتأهَّل منتخبُ “أسود الأطلس” إلى الدور الرابع والأخير من الإقصائيات، ويلاقي المنتخب الليبي، وبالانتصار عليه في الدار البيضاء أيضا؛ تأهل إلى مكسيكو 1986. المثير أيضا في المباراة هو رفْع جانبٍ من الجمهور المغربي شعارًا بمثابة تتمّة “رشيقة” ظريفة، للشعار المصري، فيها الكثير من اللباقة، لكنها بمثابة ردٍّ هادفٍ وبالعديد من “العمق” المتنوع، وتَضمّن عبارة “مصر أم الدنيا.. والمغرب أبوها”.. لم يركِّز مخرجُ المباراة للتلفزة المغربية، الراحل أزناك على الشعار لإعادة مشهده “عنوة ” أو نكاية، ومع ذلك التقطتْه العينُ والبصيرة وتَرسَّخ لدى الجميع، وصار لازمةً في الملاعب، يرافق كلَّ لقاء رياضي بين منتخبي مصر والمغرب، كما ظلّ الشعارُ المصري لازمةً أيضا في الملاعب المصرية.
مفهوم العبارة، إن كان ينمّ عن العبقرية الضاربة للجمهور المغربي في فن الرد، بما يُعرَف اليوم بـ”الكلاش”، وفي فن الدفاع عن مكانة بلاده المغرب بوطنية صادقة، فإنه يؤكد بالملموس أن المغرب استحق فعلا أن يحمل لقب “أبو الدنيا”.
ليس تعصبا أن نقول هذا، ولكن الدراسات الأركيولوجية والاكتشافات الأثرية الأخيرة تؤكده. وكيف لا نفتخر جهارا، في الملاعب وخارج الملاعب بأن المغرب أبو الدنيا، وهو الذي تم به في جبل “إيغود” بالقرب من اليوسفية، في2017، اكتشاف بقايا (جمجمة وهيكل عظمي) لخمسة من البشر العاقل “هومو سابينس”، عاشوا به قبل 300 ألف سنة، على الأقل، من الآن. أي إنّ المغرب، والحالة هاته، من أقْدم الحضارات والمغاربة من أوائل سكان الكرة الأرضية، حيث سبقوا في الوجود، على هذه البسيطة، أُمّهات الحضارات، بدايةً من حضارة ما بين النهرين، 3300 سنة فقط قبل ميلاد عيسى عليه السلام، مرورا بالحضارة الفرعونية وحضارة “السِّنْد” في باكستان، التي يؤرخ لها التاريخ وعلم الآثار بوجود لا يتعدى 4500 سنة، وحضارة “المايا” التي وُجدت 2600 سنة، قبل الميلاد، في أمريكا اللاتينية، والحضارة الصينية وحضارة اليونان، وانتهاءً عند حضارة بلاد فارس، التي لها 530 سنة فقط قبل الميلاد. بل كيف لا يكون المغرب أبا للدنيا، وحقّ لنا الافتخار بكونه كذلك، والاكتشافات الأخيرة للقطع الأثرية في “كهف المهربين” بالهرهورة جنوب الرباط، و الدراسات المتعلقة بها، أثبتت أنّ المغاربة أول من صنع ألبسة من جلود وفراء الحيوانات، عن طريق السلخ بعظام الحيوانات ذاتها، قبل 120 ألف عام من الآن، بمعنى أن المغرب أول من اكتشف الخياطة قبل الفراعنة وقبل باقي الحضارات القديمة المتعاقبة على وجه البسيطة من شرقها إلى غربها.
لا يحق لأي كان على وجه الأرض، مهما تنوعت جنسيته، عراقيا كان أو سوريا أو لبنانيا أو مصريا أو بيروڤيا أو شيليا أو هنديا أو صينيا أو يونانيا أو إيرانيا أن يتبجح علينا افتخارا، أو يُزايِد علينا، نحن المغاربةَ، في أسبقية الوجود على الأرض، لأن هيكل أخينا الـ”هومو سابينيس”، الراقد في إيغود، شاهدٌ على أقدميتنا وعلى “أُبُوَّتِنا” لباقي العالم، ولأن أدوات السلخ والذبح وإبر الخياطة، المؤثِّثة لمغارة المهربين في الهرهورة، شاهدٌ على أسبقيتنا إلى الحضارة بمفهومها الواسع وأسبقيتنا في فن العيش والحياة الكريمة بكل المفاهيم، ولأنّ هيكل أم “الديناصورات” الراقدة في أزيلال وغيره شاهد إثبات على بسالتنا. لذلك ولأجله، فالمغرب، أبو الدنيا..

Exit mobile version