Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

بالرّشوة مِن النّاس من حَسّنَت حالَها ورَفعَت دخلَها وقضت حاجتَها

محمد فارس

الرشوة قديمة مثلها مثل الجريمة، ولا تقربُها النفس الأبية الكريمة، مهما صعُب الوضع، ومهما كانت الجيوب من الفلس عَديمة.. الرشوة إذن من العيوب الموجودة في كافة الشعوب، ولا يعْلم حِسابها ونِسَبها ومَكْسَبها على وجه الدّقة إلاّ علاّمُ الغيوب.. تطوّرتْ عَبر العصور، وفي كلّ عصر يتغيّر الأسلوبُ، ويتنوّع الديكور، حتى يَبقى الراشي منتشيًا، وحال الـمُرتشي ماشيًا، فتظلّ القاعدة العامة هي: ادفعْ كُمْشة دراهم، وللمكاتب بلا خَوف داهِم، وبين الدافع والـمُمْتنِع تتغيّر المفاهيم.. فالرشوة إذن، فاتحة الأقفال، ومُكسّرة الأغلال، ومسهّلة الاستقبال، والحاجة تُقضى في الحال.. ترطّب القلوب ولو كانت من الأحجار، وتقطع البحور، وتُديم الحال الميسور، ويعمُّ الراشي والمرتشي الفرح والسرور.. إذا كان المرتشي جبلاً، فإن مقدار الرشوة ينبغي أن يساوي جملاً مُحمَّلا، وإذا كان صَرْصارا، فلا يهمّ إن قلَّ الكمُّ مقدارًا.. المهمّ، ادفَعْ حتى لو كان المبلغ دينارًا، فسَوف يقيكَ عذابًا، وذهابًا، وإيابًا، ولن تُصْلى بسبب الانتظار نارًا..

وكَمْ، وكمْ، وكمْ، من الناس من بها حسَّنتْ حالها، ورَفعت دَخْلها، ومن الشرفاء من تركوا نفْعها، وتَجنّبوا إثْمها، وتَفادَوا أوْحالها.. لكنْ ما أكثر الذين بخستْ ذِممُهُم، وبيعتْ في مزاد سوق الرشوة أعراضُهم، لكن قُضيتْ حاجاتُهم، وأُنجِزتْ أغراضهُم.. وهكذا، فأسواق الرشوة، تُرضي كافّة الأذواق، ففي [گورنَتها] تجد الخروفَ بالقرون مَلوية، وكذلك السّخْل الهزيل بعظامٍ تحت الصّوف مَخفية، وكلّها أرباحٌ من الضّرائب مَعفية.. والرشوة أنواع، منها ما له [بروتوكولات]، وسماسرة، ووسطاء، يسْتحوِذون على المغفّلين الـمُضطرّين من البُسطاء، لكن يجْزلوا العطاء.. ومنها النوع البسيط يمارسُ في الإدارة، وملحقات الحارة، يمارسها أناس يعانون من هزالة الإيجارة، يدفعُه الذين يبْغضون الانتظار، وهم جالسون في قاعة الانتظار، طول النّهار.. لكن إذا التفّتِ الكفُّ بالكفّ، وأحسّ الـمُرتشي بكفاية الـمِقدار، حُلَّ المشكِل، وعاد الرّاشي منتصرًا، مرتاحًا إلى الدّار، وقد أيقَن من سِحْر الرشوة، ولم يهتمّ بما دفعه خِفيةً عن الأنظار..

في الماضي، كانت الرشوة مجرّد هواية، أو نوعًا من أنواع الغِواية، لكن عندما اشتعلت الأسعار، والتهَب كراءُ الدار، وازدادت متطلّبات الأولاد الصغار، أمسَت الرشوة صَنْعة، تتطلّب تكوينا ودِراية، ولها أساليب وطُرق ودواليب.. فهل [المانْضة] التي لا توفّر [عضّة]، وتعويضات لا تكفي حتى لعلَفِ حِمارة، بإمكانها توفير شقّة في العِمارة؟ هل بإمكانها اقتناءُ سيّارة؟ بالطبع لا! إذن، ظاهرة الرشوة لا تعالجُ بالتّهديد، والقسوة، والعقاب الشّديد.. الرشوة لا تعالجُ بالوعظ، والإرشاد، بل بتحسين الأوضاع، وتنمية الاقتصاد.. فالهَراوة، والتهديد، يجعلان المرتشي المضطرّ يفكّر في أسلوب جديد، ثم راقِبْ كما تريد.. لكن ما هو الأصلُ في انتشار الرّشوة؟ الأصلُ فيها هو تعقيدات القوانين، صيّرتِ الإدارات متاهات، مع كثرة الوثائق والأوراق سوّدت الآفاق.. يَقضي المواطن ساعات في الانتظار، فيأخذ في المساء الأوتوبيس، أو “الكار” أو القطار، وقد وهَن عظمُه، وصار جسدُه على حافة الانهيار.. ثم يتابع الـمِشوار في اليوم التالي، فيعود في المساء بنتيجة قَدْرُها كُمشَة أصفار.. وأقلّ الأضرار، هو أن يَدفع المقدار، فيختزِل بذلك المصاريف، والـمُعاناة، وطول الانتظار، فتُقضى حاجتُه بأقلّ الأضرار.. لكن من هم هؤلاء الذين سيُحاربون الرشوة؟ إنّهم أولئك الذين لهم مراتب عالية، ويتقاضون رواتب خيالية، ويجْهلون أهمّ الأسرار..

فانظر كيف تطوّرت الرشوة في البلاد، وكيف انتشرت، وفي السلوكيات انحَشرت؛ ففي الستينيات كانت تسمّى [اللّعاقة]، من (لعق) كلبُ ومن ابتُليَ بها كان يَسْتتِر، وفي المبلغ لم يكُن يَسْتكثر.. وفي السبعينيات، لطّفُوها، فسَمّوها [القَهْوة]، فكانت القاعدة هي: هاتْ قَهْوتي، ولكَ خِدمتي.. وفي الثّمانينيات دعَوها (الإكراميات)، على وزْن [التّحْراميات] فشاعتْ (بالعَلاّلي) عبْر لَيالي، كلُّها [آمان، آمان، إِيه، يا لَلاَللِّي].. أما التّسْعينيات، دَخلتْ مجالَ الـمُعاملات، ولعبَت دورًا في الـمُعادلات، حتى لإنّها نالت الأغلبية عبْر الصّناديق الانتخابية، ومسّت الحملات، والاستحقاقات وشكّلت أمام أصحاب النّزاهة، أبرز الإعاقات، ومنعتْهم من الفوز في جلّ اللِّحَاقَات.. كانت الرشوة تقام لها ليالٍ، وتوزّع الأموال، وتقدّمُ على شكل زكاة أو صدقة، وارتبطت بالدّين للِضّحِك على ذقون الـمُغفّلين.. كان صاحب “الشّكارة” هو زعيمَ الحارة، وبفضل الرّشاوي، كان يَشْتري الخِرْفان، مهْما كانت تساوي.. وبالرشوة، كان يلجُ البرلمان، فيُصبح من الأعيان، وفي المقْعد ينامُ باطمئنان، ذاك ما أوصلَنا في ما بعْدُ إلى هذا الوضع [الْعيَّان]، فانتشرَ [ڤايْرُوس] الرشوة، فلم نجِدْ له لقاحًا غيْر القول: [كلّ شِي مَزيان]!

 

Exit mobile version