Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

سلمان الفارسي] الكارِهُ لِلمناصب لِحلاوة رضاعِها ومرارة فِطامِها

محمد فارس
من بلاد [فارس] يأتي البطلُ هذه المرة.. وقف الأنصارُ يقولون: سلمان منا؛ ووقفَ المهاجرون يقولون: بل سلمانُ منّا، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: [سلمانُ منّا آل البيت]، وإنّه لشرف عظيم، ومرتبة عالية لم يتبوّأها أحدٌ من قبل، وكان [عليّ] كرم الله وجْهه يلقّبه بِـ[لُقمان الحكيم]، سئِل عنه بعْد موْته، فقال: [ذاك امرؤٌ منّا وإليْنا أهل البيت، من لكُم بمِثل لُقمان الحكيم؟ أوتي العِلم الأول، والعلمَ الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرًا لا يُنزف].. عاش [سلمانُ] مع النّبي الكريم، وآمن به مسْلما حرّا، ومجاهدًا، وعابِدًا.. في معظم هذه السّنوات التي عاشها [سلمان]، كانت رايات الإسلامِ تملأُ الآفاق، وكانت الكنوزُ والأموالُ تُحملُ إلى [المدينة] فَيْئًا وجِزْيةً، فتُوزّعُ على الناس في شكل أُعْطيات مُنتظمة، ومرتّبات ثابتة، وكثُرتْ مسؤوليات الحكم على كافة مستَوياتها، فكثُرتِ الأعمالُ والمناصبُ تَبعًا لها، فأيْن كان [سلمانُ] في هذا الخِضم؟ وأيْن نجده في أيام الرّخاء، والثراء، والنّعمة؟
كان عطاؤُه وفيرًا؛ كان أربعة آلاف وستّة آلاف في العام، بيْد أنّه كان يوزّعُه جميعًا، ويَرفض أن يناله منه درهمٌ واحد، ويقول: [أشْتَري خُوصًا بدرهم، وأنفِق درهما على عِيالي، وأتصدَّقُ بالثالث، ولوْ أن [عمر بن الخطاب] نهاني عن ذلك، وما انْتهيْت].. فها نحن أمام رجل من [فارس]، بِلاد البذْخ، والتّرَف، ولم يكُنِ الرجلُ من فقراء الناس، بل من صفْوتهِم، فما بالُه اليوم يَرفُضُ المالَ والثّروة والنّعيم؟ ما بالُه اليوم، يَكْتفي في يومِه بِدرهم يكسِبُه من عملِ يدِه؟ ما بالُه يهْرب من الإمارة والمنصب إلاّ أنْ تكونَ في ظروف لا يصلُح لها سواه، فيُكْره عليْها إكراهًا، ويمضي إليها باكيًا؟ ما بالُه حين يلي هذه الإمارة المفروضة عليه فرضًا، يأْبى أن يأخُذ عطاءَها الحَلال؟ قال: [إنِ استطعتَ أن تأْكل التّراب، ولا تكوننَّ أميرًا على اثنين، فافْعل].. فأيّ إنسان شامخ كان هذا الإنسان! أيّ بطل أتى من [فارس] وصار من (آل البيت)، يا لهُ من بطل!
سئِل ذات يوم: ما الذي يبغض المناصب إلى نفسك؟ فأجاب: حلاوةُ رضاعها، ومَرارةُ فطامِها].. دخل عليه يومًا صاحبه، فوجدَه يعجِن، فسأله: أيْن الخادم؟ فأجابه [سلمان]: [لقد بعثْناها في حاجة، فكرِهْنا أن نَجمع عليْها عَمليْن].. جاء رجلان من [العراق] يسْألان عن [سَلمان الفارسي]، فقيل لهما: إنّه هناك يقرأ القرآن؛ فَاقتَربا منه وسألاه: هل أنتَ سلمانُ صاحب رسول الله؟ فأجاب: [لا!]، فقال الرجلان: ربّما أخطأنا، إنّه ليس سلمانًا صاحب رسول الله؛ فاستوقفهُما [سلمانُ] قائلاً: [أنا سلمانُ الفارسي، ولكن لسْت صاحب رسول الله، فصاحبُه هو مَن يدْخُل معه الجنّة].. أقام أيامًا مع [أبي الدّرداء] في دارٍ واحدة، وكان أبو الدّرداء يقوم الليلَ ويصومُ النهار، وكان [سلمانُ] يأخذ عليه مبالغته في العبادة على هذا النحو، وذات يوم حاول [سلمان] أن يُثني عَزْمه عن الصَّوم، وكان نافلة، فقال له [أبو الدّرداء] مُعاتبًا: [أتمنَعُني أن أصومَ لربّي، وأصلّي له]، فأجاب [سَلمان]: [إنّ لِعَيْنِكَ عليكَ حقّا، وإنّ لأهلِك عليكَ حقّا، صُمْ وافطِر، وصلِّ ونَمْ]؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: [لقد أُشبِعَ سلمانُ عِلْمًا]..
كان [سلمان] قد خبرَ في بلاده [فارس] الكثيرَ من وسائل الحرب، وخُدع القتال، فتقدم للرسول الكريم بمقترحه الذي لم تَعْهدْهُ العربُ من قبل في حروبها، فكانت عبارة عن حفْر خندق حوْلَ (المدينة)، والله يعلم ماذا كان سيكون مصيرُ المسلمين في تلك الغزوة لوْ لمْ يُحْفر الخندقُ، وظلت قواتُ (قريش) جاثمة، وعاجزة عن اقتحام (المدينة)، فنادى [أبو سفيان] في جنوده آمرًا بالرّحيل، يجرّون وراءهُم أذْيال الخَيْبة.. كان [سلمان] قد ائْتمنَ زوجتَه على شيء كان يَحْرصُ عليه، وطلب منها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين، وهي صُرَّةُ مسْك كان قد أَصابها يوم فتْح [جلْولاء]، فاحتفظ بها لتكون عِطْره يوم مماتِه.. ولـمّا حضرتْه الوفاةُ، قال لزوجته: [انْضَحِيه حوْلي، فإنّه يحْضُرني الآن خلْقٌ من خلق الله، لا يأْكلون الطعام، وإنما يحبّونَ الطّيب]؛ فلما فعلتْ قال لها: [اجْفئي عليَّ الباب، وانْزلي]، ففعلتْ ما أمرها به، وبعد حين صعدَت، فإذا به فارقتْ روحُه جسدَه ودنياهُ، لقد لحِقتْ بالملإ الأعلى، إذ كانت على موعدٍ هناك مع الرسول [محمد] عليه الصلاة والسلام، أليس هو القائل: [صاحبُه من دَخل معه الجنّة] فطوبى لسلمان، وما أَعظمه مِن رجُل!

Exit mobile version