Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

عبد الرّحمان بن عَوف كَثرةُ الأموال وجَليلُ الأعمال

محمد فارس

علا غبارٌ كثيفٌ أصفر، دفعت به الرياحُ نحو المدينة [المنوّرة]، وحسِبَها الناسُ عاصفة تكْنِس الرمال، لكنّهم سُرعان ما سمِعوا وراءَ سِتار الغبارِ ضجّةً تُنْبِئ عن قافلة كبيرة مديدة، ولم يمْض غيْر وقت قصير، حتى كانت سبْعُمائة راحِلة مُوقَرة الأحْمال تزحمُ شوارع المدينة وترجُّها رجّا، ونادى الناسُ بعضهم بعضًا ليروْا هذا المشهد الحافل، وليستَبشروا ويفرحوا بما تحمله من خيْر ورزْق.. سألت أمّ المؤمنين [عائشة] رضي الله عنها، وقد ترامتْ إلى سَمعها أصداء قافلة دخلت المدينة، فسألتْ: [ما هذا الذي يحْدُث في المدينة؟] فقيلَ لها: [إنّها قافلة (عبد الرحمان بن عوف) جاءت من (الشام) تحْمل تجارةً له]؛ قالت [أم المؤمنين]: [قافلةٌ تُحْدث كل هذه الرَّجة!]، ولكن أيّةُ قافلة!
وزّعت حمولةُ سبْعمائة راحلة على أهل [المدينة] وما حوْلَها في مهرجان برٍّ عظيم؛ هذه الواقعة وحْدها تُمثّل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله [عبد الرحمان بن عوف]، فهو التاجرُ الناجح، أكثر ما يكون النجاحُ وأوفاه؛ وهو الثّريُّ، أكثر ما يكونُ الثّراءُ وفْرة وإفراطا؛ وهو المؤمنُ الأريبُ الذي يأبى أن تَذْهب حظوظُه من الدنيا بِحظوظه من الدين، ويَرفُض أن يتخلَّف به ثراؤهُ عن قافِلة الإيمان، ومثوبة الجنّة؛ فهو رضي الله عنه يجودُ بثروته في سخاء، وعطاء، وغبْطة ضمير.. لقد أسلمَ هذا الثّريُّ في وقت مبكر، بل أسْلم في السّاعات الأولى للدّعوة، بل قَبْل أن يدخُل رسول الله صلى الله عليه وسلم [دارَ الأرقم] ويتّخذها مقرّا لالتقائه بأصحابه المؤمنين، فهو أحدُ الثّمانية الذين سبَقوا إلى الإسلام، ومنذ أسلم إلى أن لقي ربَّه في الخامسة والسّبعين من عمره، وهو نموذجٌ باهرٌ للمؤمن العظيم، ممّا جعل النّبي يضَعه مع العَشرة الذين بشّرهُم بالجنة؛ وجعله [عمرُ] من أصحاب الشّورى السّتة الذين توفّيَ رسولُ الله وهو عنهم راضٍ.. وفَوْرَ إسلامِه نال [عبد الرحمان بن عوف] نصيبَه من اضطهاد [قريش] وظُلمها..
كان [عبد الرحمان] محظوظا في التجارة إلى حدّ أثارَ عجَبه ودَهشه، فقال: [لقد رأيتُني، لوْ رَفعتُ حجرًا، لوجَدْت تحته فضّة وذهبًا].. لم تكنِ التّجارة والثّروة عند [عبد الرحمان بن عوْف] رضي الله عنه شرَهًا ولا احتكارًا، بل لم تكُن حِرْصًا على جمْع المال أو شغفًا بالثّراء؛ كلاّ، وإنّما كانت عملاِ، وواجبًا يزيدُهما النّجاح قُربًا من النّفس، ومزيدًا من السّعْي.. كان [ابنُ عوف] يحْمل طبيعة جيّاشة، تجدُ راحتَها في العمل الشريف، حيث يكون.. فهو إذا لم يكُن في المسجد يُصلّي، ولا في الغزْوِ يُبْلي، فهو في تجارته التي نَمت نُموّا هائلاً، حتى أخذت قوافلُه تَفِدُ على [المدينة] من [مصر]، ومن [الشّام] مُحمّلة بكل ما تحتاجه جزيرةُ العرب من كِساء وطعام؛ كانت تجارتُه ناجحة ومباركة، تَحرّيه الحلال دائمًا ونَأْيُهُ عن الحرام، وعن الشّبُهات..
لم تكن تجارة [عبد الرحمان بن عوف] لنفسِه وحْده، بل كان لله فيها نصيب، يصلُ به أهله، وإخوانه، ويجهّزُ جيوش الإسلام بالزّاد والعتاد.. باع يوْما أرضًا بأربعين ألف دينار، ثمّ فرّقَها جميعًا في أهله من بني [زُهْرة]، وعلى أُمّهات المؤمنين، وفقراء المسلمين، وقدّم يومًا لجيوش الإسلام، خمسمائة فرس، ويومًا آخر ألفًا وخمسمائة راحلة، وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأوصى لكلّ من بقيَ ممَّن شهدوا [بدْرًا] بأربعمائة دينار، حتى إنّ [عثمان بن عفان] أخذ نصيبَه من الوصية رغْم ثرائِه، وقال: [إنّ مالَ عبد الرحمان حلالٌ صَفْوٌ، وإنّ الطعمة منه عافية وبركة].. كان [عبد الرحمان بن عوف] سيِّد ماله، ولم يكن عبْدَه، وآية ذلك أنّه لم يكُن يشقى بجمْعِه ولا باكتنازِه، بل هو يجمعُه هوْنًا، ومن حَلال، ثمّ لا يَنعم به وحْدَه، بل ينعم به معه أهلُه، ورحمُه، وإخوانُه، ومجتمعُه كلّه.. لقد بلَغ من سعَة عطائِه وفَضْل كرمِه أنّه كان يُقال: [أهلُ المدينة جميعًا شُركاء لابن عَوف في ماله].. أصيبَ [ابن عوف] يوم [أُحد] بعشرين جراحة، وأنّ إحدى هذه الإصابات جعلتْه أعْرَج في إحدى ساقيْه، كما سقطت يوم [أُحُد] بعضُ ثناياه، فتركتْ هَتمًا واضحًا في نُطْقِه وحديثِه.. لقد عوّدتْنا طبائِعُ البشر أن الثّراءَ ينادي السّلطة، وأنّ الانتخابات تَفرض [قفَّة رمضان]؛ لكنْ ليستْ هذه خِصال [ابن عوف]..

Exit mobile version