Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

عبد الله بن رواحَة مقدُرة شِعرية في خدمة الإسلام

محمد فارس

عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفيًا من كفار قريش، مع الوفد القادم من المدينة عند مشارف مكة، يبايع اثني عشر نقيبًا من الأنصار بيعة العقبة الأولى، كان [عبد الله بن رواحة] واحدًا من هؤلاء النقباء، حملةِ الإسلام إلى المدينة، والذين مهّدت بيعتُهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقًا رائعًا لدين الله؛ وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية، كان [ابنُ رواحة] واحدًا من النّقباء المبايعين.. وبعد هجرة الرسول وأصحابه إلى المدينة واستقرارهم بها، كان [عبد الله بن رواحة] من أكثر الأنصار عملاً لنُصرة الدين ودعم بنائه، وكان من أكثرهم يَقظة لمكايِدِ (عبد الله بن أُبيّ) الذي كان أهلُ المدينة يتهيّؤون لتتويجِه ملكًا عليها قَبل أن يهاجر الإسلامُ إليها، والذي لم يُبارح حلقومهُ مرارة الفرصة الضائعة، فمضى يستعمل دهاءَه في الكيد للإسلام، بينما مضى [ابنُ رواحة] يتعقّب هذا الدّهاء بِبَصيرة منيرة، أفْسدت على (ابن أبَيّ) مناوراته وشلَّت دهاءَه..
كان [عبد الله بن رواحة] رضي الله عنه، كاتبًا في بيئة لا عهد لها بالكتابة، وكان شاعرًا، ينطلق الشعْر من بين ثناياه عَذبًا، ومنذ أسلم، وضعَ مقْدرته الشعرية في خدمة الإسلام، وكان الرسولُ يحبُّ شِعْره ويستزيدُه منه.. جلس عليه السلام يومًا مع أصحابه، وأَقْبل [عبد الله بن رواحة]، فسأله النّبيُّ: [كيف تقول الشّعر إذا أردْتَ أن تقول؟]، فأجاب [ابنُ رواحة]: [أنظُر في ذاك ثم أَقول] ومضى ينشد: [يا هاشمَ الخيْر إن الله فضّلكم * على البرية فضلاً ما له غِيَرُ.. إنّي تفَرسْت فيكَ الخير أعرفُه * فراسة خالفتهمْ في الذي نظروا.. ولو سألت أو استَنْصرتَ بعْضهمُو * في حل أمرك ماردُّوا ولا نَصروا.. فبث الله ما آتاكَ من حسَن * تَثْبِيتَ موسى ونصْرًا كالذي نُصِروا]؛ فسُرَّ رسولُ الله ورضيَ وقال: [وإياك، فثبَّت الله]، وحين كان عليه السلام يطوفُ بالبيت في عُمْرة القضاء، كان [ابن رواحة] بين يديه ينشدُه من رجزِه:
[يا رب لوْلا أنتَ ما اهْتَدينا * ولا تصدّقْنا ولا صَلّيْنا.. فأنْزِلن سكينةً علينا * وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقيْنا.. إنّ الذين قدْ بغَوْا علينا * إذا أرادوا فِتْنةً أَبَيْنا]، وكان المسلمونَ يردّدُون هذه الأنشودة الجميلة، ويحزن الشاعرُ حين تنزل الآية الكريمة: (والشّعراءُ يتْبعُهمُ الغاوون)، ولكنّه يستردُّ غبطَةَ نفسِه حين تنْزل آية أخرى: (إلا الّذينَ آمنُوا وعَمِلوا الصالحات، وذكروا الله كثيرًا، وانتصروا من بعْدما ظُلِمُوا).. وحيـنَ اضطرَّ الإسلامُ لخَوض القتال دفاعًا عن نفسه، حَمل [ابْنُ رواحة] سيْفَه في مشاهد [بَدْر]، و[أُحُد]، و[الخنْدق]، و[الحُديْبيَة]، و[خَيْبر] جاعلاً شِعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيدِه: [يا نفسُ إلا تُقْتَلي تَمُوتي]؛ وصائحًا في المشركين في كلّ معركة ونزال: [خلوا بني الكفّارِ عن سبيله * خلوا، فكلّ الخير في رسوله]..
وتأتي غزْوة [مُؤتَة]، وتحرك جيْش المسلمين، فرأوْا أن جيْش الروم يفوق مائتَي ألف مقاتل، ونظر المسلمون إلى عددهم القليل، وقالوا: [فلْنبعث إلى رسول الله نُخْبرُه بعددِ عدُوّنا، فإمّا أن يمدّنا بالرجال، وإمّا أن يأمُرنا بالزّحفِ فنُطيع]، بيْد أنّ [ابْن رواحة] نهض وسط صُفوفهم، وقال لهم: [يا قوْم، إنّا والله، ما نقاتِل أعداءنا بعَدد، ولا قُوة، ولا كثرة، ما نُقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكْرمنا الله به؛ فانطَلقُوا، فإنّما هي إحدى الحُسْنَيَيْن، النصر أو الشهادة]، وهتف المسلمون: [قدْ والله، صدق ابنُ رواحة]، ومضى الجيشُ إلى غايته، والتقى الجيْشان، وسقط الأمير الأول [زيدُ بن حارثة]؛ وتلاهُ الأميرُ الثاني [جعفر بن أبي طالب]؛ وتلاهُ الأمير الثالث [عبد الله بنُ رواحة]؛ وحين كان مجرّد جندي، كان يصولُ ويجولُ في المعركة، أما الآن، وقد صار أميرًا للجيش، فقد بدا أمام ضراوة الروم، واسْتَجاشَ كلّ قوى الـمُخاطرة في نفسه، وانطلقَ يعصِف بالروم عصفًا، ويَفني الجموعَ المقاتلة، لكنَّ ساعةَ الرحيل دقّتْ مُعلنةً بدْء مسيرته إلى الله؛ هوى جسدُه، فصعِدَت إلى الرفيق الأعلى روحُه المستبسِلة، وتحقّقتْ أغلى أمانيه: [حتى يُقال إذا مَرُّوا على جدَثى * يا أرشد الله من غازٍ، وقد رشدا].. ثم أنِ اللّهمَّ احْشُرنا عند أقدام هؤلاء يوم لقائِك؛ آمين!

Exit mobile version