Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

عندما نام التّفكيرُ الفلسفي استيقظ الفكرُ الإرهابي

محمد فارس
لفظُ الفلسفة مُشتقّ من اليونانية وأصلُه [فيلا ــ صوفْيا]، ومعناه: محبّةُ الحكمة، ويُطلق على العِلم بحقائق الأشياء، والعمل بما هو أصلح، ومن معاني الفلسفة، إطلاقُها على الاستعداد الفكري الذي يَجعل صاحبَه قادرًا على النّظر إلى الأشياء نظرةً متعالية، قادرًا على تقبُّل طوارق الحدثان بكل ثقة وسكينة واطمئنان؛ والفلسفةُ بهذا المعنى، مرادفة للحِكمة.. لقد قال [أفلاطون]: [إنّ أكثر الناس يَسيرون نيامًا، في حين إنّ الفيلسوف وحده هو الرّجُل المتيقِّظ]، ولكنْ ربّما كان الأدنى إلى الصّواب أن نقول إنّ الفيلسوف هو أكثر الناس وعيًا وتيقّظًا.. والفلسفةُ عند [ياسبيرز] ليست صناعةً نظرية، ولا لهوًا فكريًا، ولا عملاً فنِّيا، بل هي بمثابة السّبيل الذي يقتادنا إلى ذواتنا؛ وهذا [كيرْكيغارد] يقرّر أنه ليس المهمّ أن نَعمل على زيادة حظّ الناس من المعرفة، بلِ الأهمّ أن نُعلِّمَ الفردَ كيف يكون (إنسانًا)؛ وأما الفلسفةُ الحديثةُ فتهتمّ بتخليص العقل من الأفكار السّائدة، والآراء الـمُسْبقة، تمهيدًا لإمداده بالـمَنهج الصالح للبحث عن الحقيقة، وهذه الحقيقةُ لا يمكن التّوصل إليها إلاّ عبر (الشّك)، فهي فلسفةٌ نقديةٌ عند [ديكارت]، وأمّا [كانط] فإنّه أقام فلسفةً نقديةً مُقابلة للفلسفة القَطْعِيَة التي تقْطَع دون برهان أو دليل، وهو ما وقعْنا فيه عندما سلّمنا عقولَنا للدُّعاة والـمُحرِّضين على الإرهاب بروايات كاذبة، واعتماد الأحاديث الموضوعة والتأويلات المغلوطة، فأضلّونا وأسَروا عقولَنا وجعلونا نيامًا؛ وإنّ الفلاسفة ليَشعرونَ بأنّ الرّغبة في التّحكُّم في العقول، لهي أسوأ بكثير من الرغبة في التحكّم في الجُسُوم..
هؤلاء، خصومُ الفلسفة، يتحاموْن بأنفسهم عن مُوجّهي الأفكار، وقادة الضّمائر، ولكنّهم لا يجدون حرجًا في أن يتعارضوا أو يتناقضوا فيما بيْنهم؛ فإنّ تعدّد الأفكار الخاطئة، والآراء المنحرفة، والرّوايات الكاذبة، والتأويلات السّخيفة، والعقائد المدمِّرة، في نظرهم هو مظهرٌ من مظاهر الخصب والثّراء، والذي يشجّعهم على ذلك، هو عِلمهُم بِسُباتِ العقل، وتوقّفِه عن التّفكير، وغيابِ الأسئلة بسبب سُبات الناس وتعطُّل العقول..
إنّنا لا ننكر أنّ كثيرًا من المؤلّفات التّراثية لم تُكتَبْ إلاّ لتبرير موقف شخصي، أو لمواجهة خصومة عقَدِية، أو للِدّفاع عن آراء مُسْبقة، ولكن من المؤكّد أنّ الفقيه الذي ينشر هذه الآراء المتطرِّفة أو يدلي بهذه الفتاوى الغريبة، فيصطنع منهجَ التّبرير، إنما يصطنعه بوصفه إنسانًا، لا بوصفه فيلسوفًا؛ فالإنسان المتعصّب يزداد تمسُّكًا بآرائه حينما يحاول أحدٌ أن يُثبِت له خطأَها، والإنسانُ المتعصّب هو الذي لا يتورَّع عن إبداء غضبه واستيائه بمجرّد ما توضع آراؤُه ومعتقداتُه موضع البحْث والمناقشة، فيتعصّب لأفكارِه، ولفتاواه، ويدافع عن أفكاره بترّهات ويَعتمد تأويلات مغلوطة، ويوردُ تفاسيرَ خاطِئَة لآيات وأحاديثَ دفاعًا عن شخصه، وذَوْدًا عن كرامتِه، وحمايةً لمصداقيتِه عند مَن يصدّقونه من ذوي العقول الدّنيا أو الفكر الجامد باعتبار صاحب هذه المعتقدات هو المحتكرَ للحقيقة والصّدق والمعبِّر عن تعاليم الدّين الحقيقي؛ لكنّ الفيلسوف أو المدرّب على التفكير الفلسفي، فإنّه يرى الحقائِقَ كما هي، لا كما يعبّر عنها المحرِّفُ للدّين ولتعاليمه.. حقّا، إنّ للحريّة الفكرية تكاليفَها، لأنّ الرّوح الفلسفية إنّما هي روحُ الـمُبْصِر الذي يريد أن يتحقّق من كلّ شيء بنفسه، ولا يريد أن يُسلّم عقلَه لغيره، فليس في وُسْع الفيلسوف أن يركنَ إلى أيّة سلطة، أو أن يطْمئنّ إلى أيّ رأي، أو أن يقتصر على القبول بأية عقيدة منحرفة، لهذا اعتُبِرت الفلسفةُ خصمًا لدودا..
لو أنّك أردتَ أن تَعرف مكامن الخطر الـمُحْدق بالأمّة وعقيدتها وقيَمِها لوجدتَ أن رُكامَ كتُب التّراث الإسلامي هي الأصلُ في هذه الانحرافات، ولاكتشفتَ أنّ تعاليمَ [داعِش] مستقاة من أحاديثَ مدسوسة، ومن روايات مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نُسِبَت إليه أفعالٌ لم يقُمْ بها كنبيٍّ كريم وصفَه الله بأنّه على خُلقٍ عظيم؛ فهل تظنّ أنّ [داعش] كانت تحرقُ النّاس وهم أحياء، وكانت تذْبحهم ذبْح الشّاة دون أن تعتمِدَ روايات كاذبة وأحاديثَ موضوعة في كتبِ التّراث الإسلامي؟ كلاّ! إنّها موجودة في كتبِ التّراث الذي يعجُّ بالانحرافات، والتعاليمِ المغلوطة، ولو أنّي لا أخشى أن أذْكُر هذا الفكر الإرهابي المنحرف، لسُقتُ أمثلةً من التّراث عن إحراق الناس وهم أحياء، وذبْح الأبرياء ذبْح الشاة، وهدْم البيوتات، وعن إرهاب السّكان وهم نِيام، ولحشدتُ أمثلةً ينْدى لها الجبيـنُ لفظاعتِها؛ فلا تعتقد أنّ الإرهابَ أتى من فراغ، بل منبعُه تراثٌ ملغوم لم نَفْحَصْه فحصًا تراثيًا عِلميًا لتنقيته ممّا علِقَ به من شوائِبَ مدمِّرة، ولم نشجِّع على دراسة الفلسفة لمناقشة هذا الفكر الإرهابي المقيت..

Exit mobile version