محمد فارس
لعلّ المواطن قد راعتْهُ تَفاهة برامج التلفزيون خلال شهر رمضان الأبرك، وتَساءل عن الفائدة من تلك البرامج الضَّحْلة، وكم كلّفتْ خزينة الدّولة، وكم استفاد منها من يُسمّونَ جزافًا [فنّانين]، والفن بريء منهم لِجَهْلِهِم بِماهية الفنّ وحقيقتِه.. فالقارةُ الأوروبّية، عندما همّتْ بالنّهوض من سُباتِها الطويل، بدأتْ بالفنّ، ومن خلال الفنّ تطوّر العِلم، ونَما الوعي، فكان الفنّانون علماء، ومفكّرين، وفلاسفة، وكان المسرحُ والرّسمُ فنّا راقيًا ارتقى بالأمم إلى أعلى درجات الرّقي؛ والفنّ في حقيقته مِرآة المجتمع الواعي، حتى قيل: قلْ لي كيف هو فنّكَ، أقولُ لكَ كيف هي أحوالُ بلدِك؛ فالفنّ في حقيقته يعكِسُ مقدارَ ما وصلتْ إليه أمّةٌ من رُقيٍّ سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي.. لقد رأيتَ كيف اعتمدت فلسفاتٌ الفنَّ لتزدهر، وتشرح أفكارها، فالفلسفةُ الوجودية مثلاً اعتمدتِ الفنَّ كوسيلة، وصيغتْ على شكل مسرحيات مثيرة، فكانت مسرحياتُ [سَارْتر] مثلاً هي الأصلَ في انتشار الفلسفة الوجودية التي انتشرت انتشارَ البدعة غيْر المألوفة، فلمْ يكُن كتابُ [سارتر] الفلسفي الجامد هو الأصلَ في ذيوع [الوجودية]، ثمّ إنّ مسرحياتِه ساهمتْ في الوعي وفي مقاومة المحتلّ النّازي في بلدِه [فرنسا]؛ فكلّ أمّة لابدّ لها من فنٍّ حقيقي، أصيل، إذا كانت تَتُوقُ لِلنّهوض والرُّقي؛ هذه حقيقةٌ لا يجازفُ عاقِلٌ بإنكارِها؛ لكنْ دَعْنا نتساءل عن ماهية الفنّ، وأنواعِه، وأقسامِه؛ فما هو الفنُّ إذن؟
الفنُّ بالمعنى العام، جُملة من القواعد الـمُتَّبعة لتحصيل غاية معيَّنة جَمالاً كانت، أو خيرًا، أو منفعةً؛ فإذا كانت هذه الغايةُ تحقيقَ الجمال، سُمِّيَ الفنُّ بالفنِّ الجميل، وإذا كانت تحقيق الخير، سُمِّيَ الفنُّ بفنِّ الأخلاق، وإذا كانت تحقيق المنفعة، سُمِّيَ الفنُّ بالصّناعة؛ ومعنى ذلك، أن الفنَّ مقابل لِلعِلم، لأنّ العِلمَ نظري، والفنُّ عَملي، ومُضادّ لِلطبيعة من حيث إنّ أفعالها لا تَصْدرُ عن روية وفكْر.. والفرقُ بين الفنّ والعِلم، أنّ غاية الفنِّ تحصيلُ الجمال، على حين إنّ غايةَ العِلم تحصيل الحقيقة، وإذا كانت أحكامُ الفنِّ إنشائية، فإنّ أحكام العِلم خَبَرية أو وُجودية؛ هذا مفهومُ الفنِّ بالمعنى العام، فما معنى الفَنّ بالمعنى الخاص؟ الفنُّ بالمعنى الخاص، فيُطلقُ على جُملة الوسائل التي يستعمِلها الإنسانُ لإثارة الشّعُور بالجمال، كالتّصوير، والنّحْت، والنّقش، والتّزيين، والعِمارة، والشّعر، والموسيقى، والمسرح وغيْرها، وتُسمّى هذه الفنونُ بالفنون الجميلة، ومن عادة بعض العُلماء أن يُقَسِّموها قسمين كبيرين وهما: الفنونُ التّشكيلية كالعمارة، والتّصوير، والنّقش، والفنون الإيقاعية كالشّعر، والموسيقى، والمسرح، وقسْ على ذلك، والفرقُ بيْن الأولى والثانية أنّ جوهرَ الأولى هو المكانُ والسّكون، على حين إنّ جوهر الثانية هو الزّمانُ والحركة، وسواء أكان الفنُّ تشكيليًا أم إيقاعيًا، فإنّه في كلا الحاليْن لا يَقتصر على مُحاكاة الطّبيعة، بل يُبدّلُها بما يضيفه إليها من اختراعات الخيال، وكل مَن مَهَر في تذوّق الجمال أو تحصيله أو إبداعه يسمّى فنّانًا؛ فبالله عليكم، أَروني في ما تروْنه في التّلفزة مَن تَصْدُق في حقِّه تسميةُ فنّان؟ الجواب: هناك مهرّجون، وضاحكون على الذّقون، فتقدِّمهم التّلفزةُ لنا كفنّانين، والفنُّ منهم براء براءةَ الذّئبِ من دمِ ابن يعقوب، وجلّهم وَلَجُوا ميدانَ الفنِّ بالوساطات أو الولاءات، لا بالكفاءات..
والفنُّ ارتبطَ بالالتزام؛ والفنُّ الملتزم هو الفنُّ الموجَّه لقضايا الأُمة وخدمة المجتمع، ونشْر الوعي، والرّفع من الذّوق؛ والفنّ الحرُّ، هو الفنُّ المطلوب لذاته، وهو ما يُطلقُون عليه اصطلاح الفنّ لِلفنّ.. وللفنّ في كتُب الأدب تعريفاتٌ وأقسامٌ لا يتّسع المجالُ لذِكْرها في هذه المقالة، لكنْ من الواجب، بل من الضّروري قوْلُه هو أنّ ما نشاهده على شاشات القنوات لا يُسمّى فنّا على الإطلاق، وأنّ الكثيرين من هؤلاء الكذَبة، والمهرِّجين، والضّاحكين على الذّقون، والـمُتكَسّبين بالتّفاهات، لا علاقةَ لهم بالفنّ إطلاقًا أكانوا يُسمّون بِمُغنّين يَصْرُخون، أو ممثّلين يَحْسِبون أنفسهم فنّانين، وما هُم بفنّانين ولكنْ شُبِّه لهم؛ والمصيبةُ هو أنّهم صاروا بمثابة خُيولٍ فاشلة تُكلّفنا الملايين، حتى لإنّ مهنة الفن، صارت لِـمَن لا مهنةَ له.. ثمّ الغريب في الأمر، هو أنّهم يسَمّون كذبًا بفنّانين، ومع ذلك تُعْقَد معهم جلسات وحلقات تلفزية تافهة، ومنهم من يُستعْمل في الإشهار أو في الدِّعايات وهو لا يعني شيئًا للمُواطن المنكوب، ولكنّ الضّرر كلّ الضّرر، هو ما تعانيه خزينةُ الدّولة من كاشيهات مرتفعة ينالُها هؤلاء؛ فمن سيَجعل حَدّا لهذه الظّاهرة المكلِّفة لخزينة الدّولة؟!
قضية للنقاش: الفنُّ والفنّان وحصيلةُ برامج رمضان أيّةُ فائدة؟
