Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

مالُ الدّولة وديعة ولِوَدائعِ الله حُرمتُها

محمد فارس

جعل الله في المال، حقّا معلومًا للسائل، والكادحِ، والفقيرِ، والـمَحْروم، ورغّبَ في الصّدقة، وحثَّ عليها.. وإنفاقُ المال في سبيل الله، والتّصدّق به على المستحقّين من أفضَل ما يتقربُ به العبدُ إلى ربّه سِرّا كان ذلك أو جَهرًا، لكنْ هل كان سطْوُ المستشارين على (08) ملايير من مساهمات الدّولة، صدقة لو كانوا قد تنازلوا عنها لتُنفَقَ في شؤون شعبٍ مَكْلوم؟ الجواب: كلاَّ! بل كانوا على الأقلّ سَيَتَجنّبون أكْل السّحت، والاستيلاء على أموال الأمّة بالباطل؛ ولكنّهم حَكَّموا جيوبهم بدَل عقولهم، وقلوبِهم التي في صدورهم، إنْ كانت لهم عقول أصْلا وقلوب.. ونحن بهذه المقالات، نُذكّرهم بتعاليم دينهم، ونحذِّرهم من السّلب والنّهب اللّذيْن تتعرض لهما أموالُ الأمّة في مجلس يدّعي خدمة الأمّة، وقد كان من واجبِهم الحِرْصُ على هذه الأموال، بدل توزيعها بيْنَهم بما لا يُرضي الله عزّ وجلّ، فيما كادحون يكْدحون ليْل نهار، وجنودٌ يَحرصون على سلامة الوطن، وشرطة يحافظون على أمنِه، وموظّفون يَخدمون المواطن ليْل نهار؛ فهلِ المستشارون أهمُّ للوطن من كلّ هؤلاء الكادحين؟

دخلتْ [أمُّ عَمْرو] بنت [مروان]، وهي عمّةُ [عمر بن عبد العزيز]؛ كانت صاحبة نفوذ، حين ألغى مخصّصات (بني مروان)، وألغى مخصّصاتِها أيضًا، فسارتْ إليه، ففوجِئَتْ به جالسًا يتناول طعامَ عَشائِه، فسلّمتِ العَمّةُ ثم جلستْ، وراحتْ تُحمْلقُ بعينيها لا تكاد تصدّق ما تراه؛ لقد كان كل ما بيْن يديه من طعام خبزًا جافّا، وطبق عدسٍ، ومِلحًا، ودارتْ بها الأرضُ وقالت في نفسِها: [أهذا هو [عُمَرُ] الذي كان يخُوض في النّعيم خوْضًا، والآن هو الخليفةُ الـمُطاع، ويَصير هذا طعامه]، ولم تتمالكْ نفسَها، فأجهشتْ بالبكاء ثم قالتْ: لقد جئتُكَ في حاجةٍ لي، ولكنّي لم أكدْ أراكَ حتى رأيتُ أن أبدأ بكَ قبْل نفسي.. قال الخليفةُ: وما ذاكَ، يا عمَّة؟ قالتْ: لوِ اتّخذتَ لكَ طعامًا ألْيَن مِن هذا؟ قال [عمر]: لا أَملكُ غيرَه يا عمَّة، ولو كان عندي لفعَلتُ.. قالت: إنَّ عمّكَ [عبد الملك] كان يجري عليَّ ما تعلَم، ثمّ كان أخوكَ [الوليد] فزادني، ثمّ كان [سليمان] فزادني، ثمّ وُلّيتَ أنتَ فقطعتَه عنّي.. فأجابها: يا (عمّة)، إنّ عمِّي [عبد الملك]، وأخي [الوليد]، وأخي [سليمان] كانوا يُعْطونكِ من مال المسلمين، وليس ذلك المالُ لي فأُعطيكَه، ولكن أُعطيكِ مالي إنْ شئتِ.. قالتِ العَمّةُ: وما مالُكَ يا أميرَ المؤمنين؟ قال: عَطائي من بيتِ المال مائتَا دينار في العام.. قالتْ: وما يَبلغ منّي عطاؤكَ؟ ثم انصرفتْ عنه يائسةً، بائسةً، وهي التي كان الخلفاءُ ينحنون لرغبتها، ويسارعون إلى هواها.. أبقيتْ هناك شفاعة لشافِع أو مَطْمع لطامِع؟ لا، والله!

كانتِ الطّبقة العريضة التي أَنجبها الحُكْمُ الأُموي من سياسيين، وذوي نفوذ، أصبحت أسيرة مصالحها، والفسادُ ناشرًا سُلطانَه، والاقتصاد المتردّي والأزماتُ الطّاحنة، كلُّ ذلك ومثْلُه ذاب تحت أنفاس [عُمَر]، وإخلاصه الحارّ المتألّق، فتفتَّحتْ بصيرتُه على الحقيقة العميقة، فرأى الثّراءَ الفاحش، والحياةَ الباذخة لذوي النّفوذ، والثّروة المتمركزة في أيدي حفنات من السّادة وذوي الامتياز، ورأى حقوقَ الملايين وأقواتِها سُلبَتْ منها بغير حقّ ثمّ سأل نفسَه حتى عن أرضِ [فدَك] في [خَيْبَر]، وكانت خَيْر ممتلكاتِه وأثْمنها، ورِثها عن أبيه، فسأل نفسَه: ومن أين جاء بها أبوه؟ وقد كانت [فَدك] أفاءَها الله على رسوله عليه الصّلاةُ والسلام، يوم (خَيْبر)، فخصَّصَها لأبناء السّبيل، فلمّا تذكَّر [عمرُ] ذلك، أمر بضمِّها إلى بيت مال المسلمين.. ثمّ كُلّ أرضِه تركَها للدّولة، وكلّ ثروته النّقدية، دفعها إلى خزانة الدولة، وراح يعيش بعائدِ أرضه الصّغيرة.. ثمّ جمع ثيابه، وحُلَلَه الرّافهة، وحُلَل زوجته وأولادِه، ثمّ جمعَ مراكبَه، وعطورَه، ومتاعَه، ثمّ دفع ثمنَها الذي بلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار إلى بيت المال..

فالمالُ وديعة، ولِوَدائع الله حُرمتُها، فالدولة لا يَنقصُها المال، وإنّما ينقصُها اتّباعُ الحقّ في تقاضيه، واتّباعُ العدل في توزيعه؛ وحُرْمة الأموال العامة وقداستُها يجب أن تَكونَ في ضمير الدّولة، وفي ضمير المنوط بهم حراستُها من التّلف أو ذُيوع التّرف؛ فلمن تكُون هذه الأموال؟ يُجيبُنا [عمرُ بن عبد العزيز] قائلاً: [وَيْحَكُمْ، إنّي قد وُلّيتُ من أمر هذه الأُمة ما وُلّيت، ففكَّرتُ في الفقير الجائع، والمريض الضّائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والمظلوم المقهور، والغريب، والأسير، والشّيخ الكبير، والأرملة الوحيدة، وذي العيال الكثير والرّزق القليل، وأشباهُهم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمْتُ أنّ ربّي سيَسألني عنهم يوم القيامة، وأنّ خَصْمي دُونَهُم يومئذٍ (محمّدٌ صلّى الله عليه وسلّم)، فخشيتُ ألاّ تَثْبُتَ لي حُجّة، فلذلك ظللتُ أبكي] كان هذا وُضُوح مسؤوليته عن الأمّة كلِّها والناسُ جميعًا؛ كلّ هؤلاء الغلابة، قابعون في ضميره، يُجَلْجِلون بحاجاتهم، ويَجْأرون بشكاواهم، وينتظرون كما ينتظر المرضى، والفقراء، والسّاكنون في العراء، والذين يئِنّون من وطأة البرد، المشرَّدون في مدن البلاد وقُراها، والمستشارون يوزِّعون بيْنهم الملايير من مساهمات الدّولة، ويَنعمون بالنّوم في أرقى الفنادق، ويتمتّعون بكوبونات المحروقات، وينالون الملايين كلّ شهر بلا تعب، بِلا مجهود، بِلا..

 

Exit mobile version