Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

مع د. إحسان علي الحيدري…في فلسفة الدين في الفكر الغربي

ادريس هاني

بين يدي كتاب نفيس حول فلسفة الدين في الفكر الغربي، للباحث الأكاديمي وأستاذ المادة نفسها في كلية الآداب بجامعة بغداد، الصديق الدكتور إحسان علي الحيدري، هو جولة احترافية في منبع فلسفة الدين، كتاب معتمد في أكثر من جامعة ومنها الجامعات العراقية وجامعات أخرى عربية.
الذي لفتني في الكتاب، هو فرادته وجديته وعمق المضمون الذي تناوله، ذلك لأنّه كتاب بيداغوجي في المادة، ينطلق من فرضيات ويتوسل منهجية في التقصي وينتهي إلى استنتاج. لم يكن البحث اختيارا جرافيا بل حاجة وجودية للإجابة على عدد من التساؤلات القلقة.
كتاب الدكتور إحسان لا يضيّع قارئه، بل يقدّم له مادة علمية بروح تربوية، وخبرة في فلسفة الدين تجعله لا يقع في الخلط الذي ابتليت به الممارسة الفلسفية في هذا المجال. لقد وعى منذ البداية خطورة هذا الخلط، لا سيما بين فلسفة الدين واختصاصات أخرى تشترك في دراسة الظاهرة الدينية من زوايا مختلفة كعلم الاجتماع الديني بشتى تفرّعاته واللاّهوت وعلم الأديان المقارن.
لم يدخل الدكتور إحسان مادته وهو يجيب، بل دخلها متسائلا، مجتهدا في سبر أغوار مناشئ فلسفة الدين، في مجالها الغربي، واقفا على النصوص الكلاسيكية الكبرى، لم يترك منها ما هو ضروري لا تقوم من دونه معرفة بفلسفة الدين. فعل كلّ ذلك بصبر وأناة وتواضع العلماء.
التواصل مع المنبع مباشرة يعفينا من الهشاشة، فحقل الفلسفة عموما وفلسفة الدين خصوصا، ليس مجالا للاستعراض وعدوى التمسرح، ليس ادعاء مفتوحا بلا زبدة في القول ولا استنتاج في البحث. ليست فلسفة الدين ترفا في الخطاب ولا بجاحة في القول، فهي تحدّي يُلزم الباحث في الوقوف عند مخرجات تاريخ من الأفكار لا زالت تتطلّب مزيدا من الفهم والتحليل في المجال العربي، حيث لا زالت المحاولات محدودة، ولم تمسك بناصية فلسفة الدين بقدر ما حامت وتحوم حول اللاّهوت والكلام والأديان المقارنة وفي أفضل الأحوال علم الاجتماع الديني.
اختار الدكتور إحسان أن يتصل مباشرة بالمنبع، لم يقف عند بعض أشكال التأويل والتحاجج باسم فلسفة الدين كما انتقلت إلى البيداء العربية على حين غفلة، ومن خلال فريق الهواة، وباتت موضة من موضات المراهقة الفلسفية. ذلك لأنّ ما وصل إليها من محاولات أو على الأقل بعض المحاولات الإيرانية كما لدى شبستري أو سروش وإلى حدّ ما ملكيان، هي نصوص تأويلية، تنقل مضمونا حجاجيا لا يمكن الانطلاق منه في عملية التعلم والتربية. وفي التأويل ما يأتي حرفا للمضمون، حرفا للمنابع الفلسفية الغربية نفسها، تكاد تكون أشبه بتصفية حساب، أي مقاربات مؤدلجة يخفّ فيها الوازع الفلسفي ووظيفته باعتباره فهما لا احتجاجا، وهو ما يجعلها ضربا من الكلام الجديد، جديد من حيث حمولته المستعارة في خبرة اللاهوت الغربي، لكنه يحتفظ بذات النزعة والمزاج والوظيفة لعلم الكلام القديم.
بذل د. إحسان جهدا كبيرا في تحقيق التمييز الضروري بين قطاعات معرفية كثيرة تعنى بالدراسات الدينية، أدرك خطورة الخلط، وفي محاولة رسم الحدود والتخوم، كان ينقد فنّا يعيش الفوضى اليوم، ولا يرقى إلى مستوى العلم الحقيقي. وكان المجال العربي قد شهد محاولات لا تكاد تخرج عن دائرة علم الكلام، ذلك لأنها انخرطت في الحجاج على مقتضى علم الكلام القديم وبمفاهيم حديثة، يمكن الإشارة هنا إلى مشروع محمد عابد الجابري، إلى حسن حنفي الذي أفرد للكلام وتجديده حيزا كبيرا من اهتمامه في عمله الكلاسيكي من العقيدة إلى الثورة، وهو يدخل عندي في محاولة تأسيسية لعلم كلام جديد موصول بالفكرة الثورية للاهوت التحرير، لأنّنا سنشهد في العشرية الأخيرة موجة برّ-مائية من الكلام موصول بمخرجات الفوضى وتراجع معايير العلم في البيداء العربية، علم كلام الرجعية العربية التي ناهضها د. حسن حنفي. وكانت في العالم العربي محاولات أخرى، كالتي باشرها طه عبد الرحمن، وهي لا تخرج عن علم الكلام مهما تدرّعت بالمفاهيم الفلسفية، إنّها محاولة يجهل مؤرخو الأفكار العربية أنّها كانت تسعى لتمثّل ائتمانية وليام جيمس البراغماتية، والمعنية حقا بفلسفة الدين والنزعة البراغماتية-التداولية، ولكنه بات قدرا على التجربة العربية أن تكون أكثر انفعالا وانخراطا في التأويل والفوضى قبل أن تتحصرم.
لا شكّ أنّه لا يوجد نصّ لا يخلوا من رموز وقواعد حجاجية، ولكن أقصد الوظيفة الرئيسية لعلم الكلام، حيث ميّز مؤرّخو الملل والنحل الإسلامية وفي وقت مبكّر بين مقتضى التكلّم ومقتضى التّفلسف. وإن كان لا بدّ من توسيع حقل الكلام الجديد، فيمكن الحديث عن تجربة أركون، فهي حاولت استخراج النزعة الإنسانية من داخل التراث، واستعملت مهارتها في تاريخ الأفكار لتختار تطبيقيات باستيد الأنثربولوجية عنوانا لمحاولتها في الإسلاميات التطبيقية. ويعود الفضل لأركون في الاشتغال-لنقل- الكلامي الجديد، في بحث النزعة الإنسانية في وقت مبكّر، وهو ما أطلق عليه النزعة الإنسانية في التراث الإسلامي، وذلك من خلال دراسة تجربتين لكل من أبي حيان التوحيدي وابن مسكويه.
ويمكن الحديث عن تجربة نصر حامد أبو زيد باعتبارها مثالا آخر عن تجديد الكلام في القضية الدينية واعتماد نتائج الدرس الهرمينوطيقي وسيلة لإنجاز قراءة أخرى في استجلاب معنى “معنى” النّص الديني وتحليل الخطاب. وهي محاولة كلامية وليست فلسفية حتى لما توسلت بالهيرمينوتيقا، وذلك لأنّها محاولة حجاجية بامتياز، وهي لم تقف عند الهرميوتيقا كحقل متنوع، وكمجال لقيام إبستيمولوجيا في صميم الهيرمينوتيقيات كما نحى بول ريكور.
كما يمكن إدخال تجربة أبي يعرب المرزوقي في دائرة الكلام الجديد/القديم، لأنّها محاولة لإحياء رسوم ابن تيمية ومنحها قوة تفسيرية جديدة، وهي محاولة حجاجية على النمط القديم الذي يستهدف الانتصار لفرد واحد من داخل التراث كلّه بطريقة أسطورية، وذلك نتيجة تأثير موجة جيوستراتيجية، لعبت دورا في إذكاء هذه النزعة ، وربما وجدت في تجربة هنري لاووست مكمنا لتغذية هذا الميل، وقلّما يتحدثون عن منبع هذا التأثّر، فالمرزوقي لا يقول شيئا لم يقله لاووست وإن أمعن في محو أثره؛ يحدّثني صديق مشترك تلميذا وصديقا للاووست، أن هذا الأخير كان مهووسا بابن تيمية، ولا يرى أحدا يفهم في كل التراث غيره. وأرى أن المرزوقي لا يفعل سوى تقليد لاووست بطريقة أكثر ما تكون جدلا.
وتبقى تجربة محمد عزيز الحبابي مؤسس الدرس الفلسفي رائدة في هذا المجال، فهي وإن جاءت في بعض محاولاته على مقتضى الكلام، إلاّ أننا يمكن القول أنّها أكثر المحاولات الكلامية تفلسفا، وذلك لأنّ لأنّ حسّه النقدي الفلسفي ظلّ حاضرا، وبيئته المفاهيمية هي الفلسفة، كما سنجد في نحته للشخصانية الإسلامية. إلاّ أننا وخلال هذه السنوات من الفوضى، لم نسمع له رِكزا. فالمعنيون بالكلام المستحدث فاتتهم تجربة الحبابي، وهو في هذا، وفي سياقه، يعتبر مؤسسا وصاحب سبق في تجديد الكلام.
ولا أخفى عند المولعين بالكلام المستحدث من د. المهدي بن عبود، مفكر إسلامي وسفير مغربي، عنيّ بتجديد القول الكلامي والفلسفي في صميم الدين، كما في “عودة حيّ بن يقظان”، الخاصية التي تميز تجربة بنعبود: نقد الانسداد الحضاري، نزعة التقدم، النزعة الأخلاقية والتواضع ومخاطبة الغرب في مواقع ومؤسسات اتخاذ القرار، تأمّل قوله في عودة حيّ بن يقظان: ” تصورت الصحوة لحي بن يقظان انبعاث الإنسانية من مرقدها، خروجا من ظلمات الرذائل إلى نور الفضائل تدرجا في سلّم الكمالات الحقيقية، وابتعادا وتطهيرا من أمراض القلوب التي في الصدور، وعلى رأسها الجهل المركب، والكبر المغرور، والوهن الأعمى، والخوف من الأغيار، والقلق من الغد الغائب “. كان بنعبود من أوائل المتكلمين المحدثين، والأهم أنه كان مناهضا للاستعمار والتخلف معا.
كل هذه التجارب العربية هي سابقة على محاولات شبستري ومالكيان وسروش وغيرهم، سواء من المُطارحين أو النّقلة، فليس فيما توصلت إليه تجربة هؤلاء ميزة أو جرأة تفوق علم الكلام الجديد العربي، بل هناك فقط حيلة حجاجية تقوم على مغالطة “حجة السلطة”، وصورتها أنّ هذا النوع من المطارحة يكتسب صفة التجري بلحاظ البيئة التي يطرح فيها، وهنا تدخل الاعتبارات الجيوستراتيجية التي أشرت إليها، أي العداء المزمن للبيئة التي ينطلق فيها هذا الكلام، بوصفه يحمل مضمونا، مفتاحه التّجرّي. استعمال وسائل التّظلّم والاضطهاد ولعبة الاستفزاز. فسروش ومن في حكمه إن صرّفتهم في البيداء العربية لن يعطوك متتثاقفا مكلوما بدل أن يعطوك محققا متكلّما. ففي كل تلك النقول “السكولائية” التي تنطلي على جيل “حبّ الشباب”، فالطابع الذي غلب على نحلة التكلّمات المستحدثة، هو اعتماد حجة السلطة التي تجعل فعل الإقناع مبني على عصبية عميقة، فكرة الشوكة والغلبة التي حلّت محلّ قوة التحليل والتحقيق. فحتى الآن وجب أن تنهض حركة تصحيحية لمسار مفسد للكلام والفلسفة، حيث يبدو التراث متقدّما على الممارسة المستحدثة، من حيث العمق السكولاستيكي ومتانته وشموليته.
الحاجة إلى تحقيق العلوم وفرزها في قلب المتاهة العربية، ضرورة حضارية. ذلك لأنّ الأمة التي تدمن على استهلاك ما دون الجودة، والسلع والخدمات المقلّدة، ستفقد أصالة التفكير الحرّ، والحسّ الدافق إلى الابتكار، والتشويش على ملكة الحدس. إنّها بالتالي، حاجة ثورية، لأنّ لكل إنجاز وفكر تاريخ، فهل يمكن كتابة تاريخ الأفكار المزيّفة؟ إنّ تراجع الإبداع وغلبة التقليد والنقل وإعادة إنشاء المُشأ من دون تقيد بشروط العرض والطلب، وخلق سوق من المستهلكين السبهللة، يعزز هذا الانحطاط الذي آلت إليها الفلسفة عموما وفلسفة الدين خصوصا، تلك الفلسفة التي تمارس جزافا في المجال العربي، من دون عمل تأسيسي وبيداغوجي كما سنكتشف مع د. إحسان.
وأعتقد أن كتاب د. إحسان يلبّي هذه الرغبة، وهو يصلح لإعادة تأسيس تصور موضوعي لفلسفة الدين، كما يصلح أن يكون عملا داعما للحركة التصحيحية، وتحقيق هذا العلم وتمييزه عن أشباهه من حيث وحدة الموضوع، وإن اختلفت الغايات والوظيفة، حيث القدامى كانوا أعمق من المحدثين في تعريف العلم- كما فعل الأصولي الآخوند ملا كاظم – حيث موضوع كل علم هو ما يبحث في عوارضه الذّاتية، وفي تفاصيل معنى العوارض الذاتية تاه البحث وانكسر القلم.
فهذا التدقيق الذي تميزت به محاولات القدامى لم يعد له وجود، لا سيما في التبسيط الضارب الأطناب وإرادة الفوضى. ففي فلسفة الدين كما سيثبت ذلك د. إحسان، يكون الدين في خدمة العقل، بينما في علم اللاهوت يكون العقل في خدمة الدين. ففلسفة الدين باتت اختصاصا وحقلا مستقلا منذ نهاية القرن الثاني عشر، وهو يستمد أيضا روحه النقدي من الموقف الفلسفي. الموقف الفلسفي نقدي، وهو ينصرف إلى حقول متعددة، فلا يمكن لفلسفة الدين أن تكون جريئة على نحو غير أصيل؛ أعني بالأصيل هنا، ما يفيد الـ(authenticité)، لا يمكن للتقليد مهما انتشرت عدواه أن يصبح موقفا نقديّا؛ فالتقليد ليس تقليدا للتراث فحسب، بل حتى التقليد لنتائج الأفكار الحديثة دون الوقوف على مكمن نشوئها وارتقائها، هو تقليد يحمل الصفة ذاتها. والغالب على الممارسة الكلامية المستحدثة والعناية بالدراسات الدينية سوسيولوجيا وفلسفيا وأديانيا هو التقليد. والقضاء على التقليد هو منح فرصة لتأطير مجال الاشتغال، لتحقيق المناط في علم دخلناه من الثقوب دون طرق الباب الرئيسي حيث هناك يكمن تحدّي التأسيس.
إنّ الجميل في بحث د. إحسان هو إعلانه وبصوت عالي، أنّه بعد رحلة شاقة وممتعة في آن معا قد وصل إلى برّ الأمان. فهو يدرك أنه فتح طريقا للإجابة عن قلقه الأوّل، لكنه هو أكثر اطمئنانا لأنّه مارس اجتهادا حقيقيا لم يبق معه لُبس، بذل الوسع في طلب الحقيقة. فلقد وقف عند رواد التفكير الفلسفي الغربي وقوفا حقيقيا بالشرح والمساءلة والاستنتاج، ضرب بعضا من آرائهم ببعض فتولّد منه الصّواب. وهو بذلك وضع زبدة عمله في خدمة الناشئة، حيث يعتبر كتابه حول فلسفة الدين في الفكر الغربي، الأوّل من نوعه تدريسا في الجامعات العراقية.
ويبقى أن أشير إلى أنّ د. إحسان مناضل حقيقي يعمل في صمت وإخلاص للمعرفة والإنسان، ويقدّم مادّة مُقنعة في معيار بيداغوجيا التّعلُّمات. وهو يقود “المجمع الفلسفي العربي”، كناشط لا يدّخر جهدا في انتهاج شروط المجتمع العلمي المفتوح، وهو منهج جدير بأن يخرق طبائع الاستبداد في الثقافة العربية، القائمة على الزّيف، والتوظيف، والاستغلال، والتآمر، والإنتهازية، وما إليها من ظواهر يدركها صاحب الكتاب باعتباره أستاذا أيضا لفلسفة الأخلاق. وكنت أرغب في أن يثنّي بعمل حول فلسفة الدين في الفكر العربي، بالنفس نفسه، والتحقيق نفسه، وأمامه مندوحة لفعل ذلك، وذلك لإنجاز عمل كلاسيكي مكمّل للأوّل، هدفه ضيط إيقاع كل علم بحسب موضوعاته، وترسيم الحدود بين حقول المعرفة منهاجيا قبل إعادة احتوائها عبر-مناهجيا.
ادريس هاني:8/10/2021

Exit mobile version