Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

هل حقّا أنّ الفلوس تغيِّر النّفوس

محمد فارس
نعم، للمال سَكَراتٌ تُنْسي الفردَ نفسَه، وتغيِّر أخلاقَه، فيتنازل عن مبادئِه، وقيمِه، ودينِه، ومن يحبّ المالَ يمنعه مالُه عن الخير، واكتسابِ المعالي، ومهْما كثُرتْ ثروتُه، وزاد مالُه، بخسَتْ قيمتُه ولبس الذُّلَّ والمهانةَ، وعانى من تعبِ الجمْع، ومَن سُلِّطتْ عليه الدّنيا، ما نام ولو ليلةً مريحةً في حياتِه، وكمْ من الناس من باعوا أنفسَهم، وكرامتهُم من أجل مالٍ وسوءِ مآلٍ وعن بعض هؤلاء سنتحدّثُ في هذه المقالة، ومنهم صحابة غرَّتْهمُ الدّنيا وأخذتْ بلُبِّهم، ومنهم فلاسفة مِمَّن شغفه المالُ والتّرفُ فاقتربَ من الأغنياء وقَبِل بمناصبَ صارتْ وبالاً عليه كما ذكَر لنا التّاريخ.. لن نتحدّث هنا عن صحابة أثْرَوا ثراءً فاحشًا، ولكن سوْف نتحدّثُ عن صحابة غيَّرهم المالُ أو قاتلوا ليس لوجه الله، ولكنْ لأَحْسابِ قَوْمِهم، ومنهم من قاتلَ من أجل دنيا يصيبُها أو ثروة يحوزُها حتى قال فيهم سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: [منكم من يريد الدُّنيا ومنكم مَن يريد الآخرة]، فقال [ابنُ مسعود]: [والله ما كنتُ أظنُّ أنّ مِن أصحابِ رسول الله مَن يريد الدّنيا حتى نزلتْ فينا هذه الآيةُ يوم أُحُد]..
كان [معاويةُ] بقصوره الباذخة، وموائده العامرة، وأمواله الفائضة، أقْرب إلى قلوب النّاس من [عليٍّ] أو من [أبي بَكر]، فرأيْنا [عقيلاً] شقيقَ [عليٍّ] يفرّ من [عليٍّ] بعدما رآه يعطيه كما يعطي غيره من الناس، فهو الشّريفُ القُرشي لا يختلف في عطائه عند [عليٍّ] عن العبد الحبشي، فذهب [عقيل] إلى [معاوية] فأعطاه عطاءً سخيًا، فسأله [معاويةُ] قائلاً: [يا عقيل، كيف تركتَ أخاكَ عليًا؟]، فأجاب [عقيل]: [إنّ أخي خيْر لي في ديني، وأنتَ خيْر لي في دُنياي]؛ وفي مرجعٍ آخر أنّه قال لِـمُعاوية: [تركتُه خيْرًا لنفسه، وأنتَ خيرٌ لي منه].. وكاد [عبد الله بنُ عباس]، ابنُ عمِّ [عليٍّ] أن يقوم بمثل ذلك، فهو لم يَكَدْ يَرى من [عليٍّ] محاسبة دقيقة، وحِرصًا شديدًا على أموال الأمّة، حتى نَهبَ بيتَ مالِ (البصرة)، وذهب إلى (مكّة)، وكتبَ إلى [عليٍّ] كتابًا يقول له فيه: [لئِن لم تَدَعْني من أساطيرِكَ، لأحملنَّ هذا المال إلى [معاوية] يقاتلكَ به].. ويوم [أُحد] جُرحَ [قَزْمان] جرْحًا عميقًا وكان يلفظ أنفاسَه الأخيرة، فقيل لِلنّبيّ عليه السلام: [(قزْمان) يحتضر يا رسول الله]، فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّه من أهل النّار]، فتعجّب السّامِعون وكانوا على وشْكِ الرِّدّة، فعادوا إلى [قزْمان] قائلين له: [أبْشِرْ بالجنّة يا (قَزمان)]، فقال لهم [قَزمان] قبل موته: [عَن أيّة جنّةٍ تتحدّثون، والله ما قاتلتُ إلاّ لأحْسَابِ قومي] ثم مات، فقالوا: [صدقَ رسولُ الله]، فنزلتِ الآيةُ [منكم مَن يريدُ الدُّنيا ومنكم مَن يريدُ الآخرة]..
قد يسألُ القارئ الكريم: وماذا عن الفلاسفة، هل كان منهم من يحبُّ المالَ والمناصب؟ والجواب: نعَم! فهم بشر وليسوا ملائكة أو أنبياء، فمنهم من أحبّ المالَ وكان يزورُ الأغنياء، ومنهم من تَولّى مناصبَ عليا لامتيازاتِها ومكاسبِها، أمثالُ مَنْ مثلاً؟ مثْل [أفلاطون]، كان ثريًا، ويمتلك العبيدَ والغِلمان، وكان يكْره العامّةَ ويناهض الدّيمقراطية.. مثْل [أرسطو] الذي تولّى منصبَ مُربٍّ للإسكندر الأكبر حتى صار مستشاره الشّخصي عندما تولّى الإسكندرُ السّلطةَ.. مثْل [ديكارت]، كان محبّا للمال والتّرف والعيش الرغيد، والملبس الأنيق، والأكل الجيّد، وكان يزور الأمراءَ والأغنياءَ، يقيم عندهم لفترات قد تطول وتقصُر.. وهذا الفيلسوف الإنجليزي [فرانسيس بِيكون] تولّى مناصبَ عليا في الدّولة، وقد بلغ منه الطُّموحُ مبلغًا دفعه إلى أن يكونَ تحت تأثير السّلطة كمُدّعٍ عام، فأقامَ دعوى ضدّ صديقِه الحميم [إيرْل أفْ إسْكَس] الذي أحسَن إليه خيْر ما يكون الإحسان، وقد أدّى [بيكون] هذه المهمةَ وانتهتْ بإعدام صديقه، فكان فيما قال عنه الشاعرُ [أليكسندر بوب]: [أعْقَل الناس، وألْـمَع الناس، وأنذَل النّاس]، وبمجرّد أن قام بتلك المهمّة، فُصِل من منصبه، وبدأت حقبةُ اضطهاده.. ياه! لكن أين هؤلاء من الفيلسوف العملاق في الفكر والأخلاق، وأعني به [إسبينُوزا] الذي رفض رغْم فقرِه مناصبَ في السّلطة، وعَرض عليه [لويس 14] مبلغًا ماليًا ضخمًا ومعاشًا بشرط أن يقومَ بإهداء كتابٍ إليه؛ كما عرضَ عليه ثريٌ نًصْفَ ثروته، فرفضها رغم فقرِه، خوفًا على حرّيته في التّعبير عن معتقداتِه بدون تحفّظ.. فالمالُ يعْبث بالعقول، وإغراؤُه شديدٌ ولا يَصمد أمامه إلاّ صاحب النّفس الأبيّة، وأنتَ ترى الآن كم هم الذين توافدوا على حزب [أخنوش]، فالواحدُ منهم من أجل المال، والآخر منهم من أجل المنصب، والآخر (طبّال) في الإعلام المضلّل، بل حتى زُعماء الأحزاب انحنتْ هاماتهُم وتَقَزّمتْ قاماتُهم لِـمناصب أو مكاسب نالوها؛ لهذا، فالفلوس تغيِّر النّفوس هذه هي الحقيقة..

Exit mobile version