*الدكتور أحمد درداري
رئيس المركز الدولي لرصد الأزمات واستشراف السياسات
لم يشهد العالم باسره منذ فترة الحرب العالمية الثانية من ضياع و تشتت في الرؤى و القرارات مثل ما سببه فيروس كوفيد19 الذي فرض الحجر الصحي على جل دول العالم، هذا الوباءالذي يستمرأثره ليس فقط على الصحة العامة ولكن أيضا على الاقتصادات العالمية والعلاقات الدوليةوالأمن القومي للدول، و المغرب بالتأكيد ليس استثناء لولا حكمة و تبصر ملك البلاد و قيادته الجريئة لهذه المرحلة العصيبة و تجند سائر المسؤولين و المؤسسات الوطنية لتدبيرأمثل للازمة و بنفس وطني،حيث اتخذت الإجراءات المناسبة في وقت قياسي وكان لها دور كبير و محوري في تجنب البلاد كارثة صحية و نهجت سياسة الحفاظ على القوة البشرية على حساب القوة الاقتصادية ايمانا من ملك البلاد بحكم ان نجاح التعامل مع الازمات يرتبط بالقيادة و الرؤية الواضحة من أجل التغلب على جميع التحديات و النجاح في تحديد الأولويات ابتداء من المرحلة الأنية، حيث اثبتت الإجراءات الاستباقية التي طبقت نجاعتها و ارتفاع منسوبية ثقة المواطن في التدابير. ومرحلة ما بعد كورونا بدأمعها الجميع يستشرف فرجا و يخطط لعدة تصورات من أجل إرجاع وتداركبعض ما أفسده هذا الوباء.
ان المرحلة الآنية، أي مرحلة تحدي الفيروس و التي قد تمتد حسب بعض المختصين الى أواخر السنة، فاعتقد انه مع مرورنا الى مرحلة تخفيف الحجر الصحي علينا ان نعتمد أسلوباجديدا لحياتنا اليومية في التعامل مع وجود هذا الفيروس بنوع من المسؤولية لأجل استرجاع نشاطاتنا الاقتصادية او الاجتماعية.
اما الحديث حول مرحلة ما بعد كوفيد 19، فالجميع يرى ان هذا الوباء سيكون له الأثر البالغ على التجارة الدولية و اقتصاديات الدول بحيث نلاحظ مظاهر التغييرفي أدواربعض المنظمات الدولية مثل منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية و…فضلا عن ارتباك بعض القيادات الدولية وما عرفته الولايات المتحدة من تخبط .
ان العالم ومنه اوربا مقبل على نقاش حاد حول جدوى هذه المؤسسات الدولية، و اعتقد ان جزء من التعاون الدولي سيتوقف و جزء اخر سيبدأ في التكوين مع تقلص المساعدات الدولية لان هذا الفيروس اختبر أسس و قوة العديد من الدول لمواجهة مختلف المخاطر والأزمات.
وبما أنه بعد مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية انشات الأمم المتحدة و العديد من المنظمات الدولية من اجل الحفاظ على السلم العالمي، و بعد احداث 11 شتنبر بدا الاهتمام بالتعاون الأمني و برامج مكافحة الإرهاب، اعتقد ان هذه الازمة ستنشئ مؤسسات دولية جديدة تعنى بمواجهة الحروب او الازمات البايلوجية والجوائح القادمة في شكل سلالات من هذا القبيل. كما ان هناك العديد من الدول ستبحث عن بديل تجاري غير الصين التي أضحت مصنع العالم، و الولايات المتحدة التي تجد نفسها مطالبة ببذل المجهود لتبقى متزعمة العالم العربي، ومن جهة أخرى سوف تتقوى العلاقات الإقليمية بشكل أكبر نظرا لتشابه ايديولوجياتها و ستكامل بنيتها التحتية.
وفي خضم هذه المتغيرات ظهر المغرب كنموذج نوعي ومجتلف وعليه ان يستغل هذه الأوضاع الدولية لصالحه لان جل الدول ستشرع في البحث عن أسواق جديدة مع عدم الاعتماد على تلك الاسواق الأوروبية و الامريكية، وامامه فرصة كبيرة في البروز كإحدى الاقتصادات الصاعدة مثل البرازيل و إندونيسيا.
كما ان الاقتصاد العالمي سيعتمد اكثر على تكنولوجيا الجيل الخامس و سيعتمد الجميع على نفسه من اجل محاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي، لذا على المغرب ان يجد حلاللتعثرات الداخلية بتظافر جهود جميع المتدخلين مع الإسراع في تنزيل برامج قوية و ذات إمكانيات مادية كافية وطبقا لاجراءات قانونية تمكنها من مواجهة الازمات و تخفيف الضغط الاجتماعي، الذي يتطلب من الدولة الاجتماعية اضاءة الزوايا المظلمة.
وعلى هذا الأساس يمكنه أن يستخلص من هذه الجائحة دروسا تعود بالنفع عليه بحيث يمكن إعادة النظر في عدد من الأمور و التوجهات سواء السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية او الثقافية، ومن بين ما يمكن أن اقدمه من مقترحات و بدائل متواضعة لمرحلة ما بعد كوفيد 19:
– إعادة الاعتبار للخدمة العمومية و التشبث بدور الدولة الاجتماعي مع التركيز على قطاعي التعليم و الصحة اللذين حاولت بعض الحكومات السابقة توهيم الشعب انهما يمثلان عبئا على الدولة أثبت كورونا اليوم أنهما مقياس مواجهة الازمات وعنوان تقدم او تخلف الدول.
فقطاع التعليم الذي يعانى الاختلالات، اثبت اليوم ان دوره فعال داخل أي مجتمع، ويجب الوقوف بحزم و إعادة إصلاحه على جميع المستويات و منح المدرسة العمومية هيبتها و مواكبة الأساتذة في عملهم و تحفيزهم على الاشتغال في ظروف ملائمة حتى يتمكن المواطنين من فك اغلال قطاع التعليم الخاص و إرجاع أبنائهم الى أحضان التعليم العمومي لما رأيناه من جشع من لوبيات التعليم الخاص الذي كان الى حدود الثمانينات الملجأ الأخير للتلاميذ الفاشلين او المطرودين من المدرسة العمومية. مع احترام الطاقم البشري للتعليم الخاص و خصوصا الأساتذة لما ابانوه من تفان و تضحية خلال هذه الفترة بإمكانيتهم البسيطة المقتطعة من رواتبهم الهزيلة، فقد آن الأوان للتفكير بجدية في طريقة مناسبة لتسوية أوضاعهم المادية و تمتيعهم بحقوقهم الكاملة، لان الاستثمار في المدرس و التعليم و البحث العلمي هو استثمار في الأجيال المقبلة و استثمار في العنصر البشري الذي لا يقدر بثمن.
وعلاقة بموضوع الأساتذة المتعاقدين يمكن القول أن المسؤولية مشتركة بين الاستاذ والادارة فيما يتعلق بالتوقيع على عقد عمل الذي يبقى من الناحية الدستورية غير دستوري و تم تنظيمه بمذكرة داخلية التي لم تعرض على أنظار المجلس الوزاري ومنافية للمقتضيات الدستورية كان الأفضل عرضهاعلى أنظار المحكمة الدستورية للنظر في مدى مطابقتها للدستور، بالاضافة الى أن الاضرابات التي خرجت عن اهدافها النبيلة وراح ضحيتها تلاميذ المدرسة العمومية باعتبارهم ايتام التعليم العمومي وقد نسيهم الجميع دون ادراك لأهمية حقوق الاطفال وبتر الشيء الكثير من حياتهم، كما أن الاضراب يخلط التميز بين الموظف العمومي والأجير، ذلك أن الموظف العمومي يخضع للنظام الأساسي للوظيفة العمومية ويتمتع بمجموعة من الحقوق وعن تعرضه لضرر في مواجهة الادارة يلجأ للمحكمة الادارية، بينما الأجير فيخضع لقانون الشغل الذي يقر له بحوقوق في مواجهة المشغل، وعند تعرضه للضرر يلجأ للمحاكم العادية، والنقابة التي تمثل الموظف العمومي والأجير رغم اختلاف الوضعية وتباعدها غير قانونية ويجب الفصل لأن مفهوم التمثيلية بقي سياسيا وليس مهنيا ولا نقابيا صرفا، وبهذا تكون الاضرابات متعارضة المطالب لكونها مختلفة المداخل ويمكن مساءلة الموظف العمومي عن علاقته بموضوع ليس من نفس النوع الا الفضاء المشترك.
وللخروج من الأزمة يجب على الدولة مراجعة دورها وارجاع المدرسة العمومية التي تبني المواطنة الى مكانتها الحقيقية، وتأهيل المدرسة الخاصة ان ارادت الدولة تحقيق المساواة في الولوج الى المدرسة بين أبناء الوطن الواحد، والمساواة في الأجور والخروج من اهانة التلميذ في المدرسة العمومية واهانة الاستاذ في المدرسة الخاصة، الى الجمع بين الحسنيين استاذ المدرسة العمومية وتلميذ المدرسة الخاصة.
اما بالنسبة لقطاع الصحة الذي عانىبدوره سنوات طوال، بحيث اعتبر قطاعا ثانويا تخصص له ميزانيات هزيلة فرض كوفيد 19 اليوم على الدولة ان تأخذ العبرة من هذه الجائحة، ويجب ان تسري عليه نفس المقاربة حيث يجب الجمعمزايا الطبيب العمومي ومعاملة المريض في المصحات الخاصة،وأن تولي الدولة اهتماما كبيرا لهذاالقطاع بزيادة عدد الأطباء و الممرضين و تأهيل الموظفين، و إعادة هيكلة المستشفيات التي تعاني أغلبها خصاصا شديدا في بنيتها التحتية وموارها البشرية و كذلك أسلوب تدبيرها.
وبالمقابل اثرت ازمة كورونا على التوازنات الداخلية للبلاد، مما سيكون له الأثر البالغ على الاقتصاد الوطني الذي تراجعت معه القدرة الشرائية رغم المجهودات. كما عرف قطاع التصديرأيضا توقفا شبه كامل في حين يعتمد اقتصاد البلاد على استيراد معظم المواد سواء الأولية او الاستهلاكية. لذا سيعرف هذا القطاع أي قطاع الاستيراد مع اسمرار غلق الحدود إكراهات عديدة تستوجب الدفع بتطوير الإنتاج الوطني كما و كيفا و الاتجاه نحو الاسواق الداخلية لتلبية إحتياجاتها من الإنتاج قصير المدى مع الحرص على إستقطاب و تشجيع المستهلك المحلي و ان تولى أهمية للبنية التحتية الرقمية نتيجة تقديم الخدمات عبر الانترنيت ،لان العالم سيتجه المعاملات الالكترونية بحيث ستمثل البنية التحتية الرقمية مفتاح التحكم واستمرار أعمال الشركات على المديين القصير و الطويل.
والحكومة الإسراع بتفعيل السجل الاجتماعي الى الوجود و الذي سيمكن من العمل على منح الدعم لمستحقيه الحقيقيين، و ما خطة الطوارئ التي أقرها المغرب في شقها الخاص بتوفير الدعم المادي سواء للمستفيدين من النظام الصحي راميد او المنتسبين الى القطاع الغير المهيكل إلا تسهيلا لعملية إعداد السجل الاجتماعي الذي عرف تأخرا كبيرا بحيث ستشكل هذه البيانات و المعلومات أرضية صلبة لتفعيل هذا السجلوتفعيل قانون الاطار للتغطية الاجتماعية الذي سيتخذ مراحل تمتد الى 2025.
كما يجب التركيز على الاقتصاد الاجتماعي و التضامني الذي قطع فيه المغرب اشواطا كبيرا ، حيث يشغل هذا القطاع نسبة كبيرة من الفئة الهشة مع الحرص على تأهيل و تكوين المستفيدين و تنويع نشاطاته لكي يستطيع مواجهة تنافسية القطاعات الموازية.
و لمحاولة تقوية إيرادات الدولة و تعويضها عن العجز في المداخيل، أقول انه يجب على الدولة خصوصا في هذه الظروف أن تكون لها الشجاعة و تقوم بإصلاحات في نظام الجبايات تهم بالخصوص بعض القطاعات المربحة و التي تتمتع بإمتيازات غير مبررة مثل قطاع الفلاحة المعفي من الضرائب منذ الاستقلال وهو إمتياز غير مبرر خاصة بالنسبة لأصحاب الضيعات و الفلاحين الكبار، مع التركيز على تطوير هذا القطاع من أجل الوصول الى تحقيق الإكتفاء الذاتي خصوصا و ان منظمة الامن الصحي بدأت تحذر في بلاغاتها بوقوع أزمة غذائية حادة سيعرفها العالم نتيجة هذا الوباء. و أيضا تعديلات تهم مساهمة أكبر من الفئة الميسورة و الغنية و لو مؤقتا الى حين تخطي اثار الجائحة.
والتاريخ حافل بدروس في المحن والأزمات التي أنجبتاليوم مولودا جديدا للشعوب، وعلى المغرب ان يجعل من كوفيد 19، فرصة لا تعوض لتصحيح مسارات الاصلاحو الانتقال الى المسار الصحيح قاطعا مع مرحلة الارتجال والغموض في التعاطي مع المسؤوليات في تدبير السياسات العمومية.