Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

الأحزاب المغربية بين منطق البقاء ومنطق التغيير: عام الحقيقة الانتخابية

بقلم: حسام بوزكارن

في المغرب، لا تقاس السياسة بعدد الوعود المعلنة أو الشعارات المرفوعة، بل بما يشعر به المواطن العادي في تفاصيل حياته اليومية. ورغم تعدد الأحزاب وتنوع خطاباتها، يبدو المشهد وكأنه يعيد نفسه بلا تغيير حقيقي. هناك حالة من الدوران في حلقة مفرغة، حيث تتبدل الوجوه وتبقى الأساليب، ويعاد إنتاج نفس الخطاب بعبارات مختلفة. في هذا السياق، تصبح السياسة أقرب إلى طقس دوري يتكرر في كل محطة انتخابية، دون أن يرافقه تحول فعلي في موازين الفعل السياسي أو في الأثر الملموس على أرض الواقع. تترسخ قناعة لدى فئات واسعة من المجتمع بأن الأحزاب، على اختلاف ألوانها، لم تعد قادرة على التجاوب مع التحديات الحقيقية، ولا على تقديم بدائل تقنع الشارع وتستنهض الثقة.

مع اقتراب الانتخابات المقبلة، تتحرك الأحزاب السياسية بوتيرة متسارعة، كما لو كانت تتهيأ لاحتفال موسمي. تتكرر الشعارات ذاتها، وتستعاد الخطابات القديمة بلبوس جديد، بينما تتجنب النخب السياسية طرح الأسئلة الجوهرية حول جدوى الأداء، وعمق التغيير المنشود .ما نشهده ليس تنافسا على الحلول، بل سباقا على البقاء. تتحرك الأحزاب بدافع الحفاظ على مواقعها، لا من أجل تقديم رؤى بديلة. هذا التكرار الآلي يعكس أزمة فكرية وهيكلية عميقة داخل المنظومة الحزبية، ويؤكد على انسداد أفق الإصلاح من داخل المؤسسات الحزبية نفسها.

حين تعلن الأرقام عن ضخ استثمارات ضخمة في قطاعات حيوية كالتعليم أو الصحة، يبدو ذلك مبشرا على الورق. لكن الواقع كثيرا ما يكذب هذه الخطابات، إذ تظل الفصول الدراسية مكتظة، والمراكز الصحية تعاني من ضعف البنية والتجهيزات، والمواطن يلمس الفجوة بين التصريحات والواقع. ورغم تصدر بعض الأحزاب المشهد بفضل الإمكانات التنظيمية والموارد المالية، إلا أن مؤشر الثقة في العمل الحكومي لا يزال منخفضا. النسبة المرتفعة من المواطنين الذين لا يثقون في الأداء السياسي ليست مجرد رقم، بل تعبير صريح عن أزمة عميقة في العلاقة بين الدولة والمجتمع.

تسعى بعض الأحزاب، التي ارتبطت في الماضي بخطاب إصلاحي، إلى إعادة بناء شرعيتها عبر استعادة رموزها القديمة وخطاباتها السابقة. غير أن الناخب المغربي اليوم ليس هو ذاته الذي تجاوب مع تلك الشعارات في السابق. تغيرت الحاجات، وتعمق الوعي، وتراكم الإحباط.

المشكلة لم تعد مرتبطة بالأشخاص بقدر ما تتعلق بالرؤية. فإعادة إنتاج نفس الخطاب السياسي، في ظرفية اجتماعية واقتصادية جديدة، لا يؤدي إلا إلى مزيد من الانفصال عن الواقع. إنها محاولة لتدوير نفس الأدوات السياسية في زمن تجاوزها.

تواجه بعض التشكيلات السياسية معضلة حقيقية في تحديد تموقعها. فهي تشارك في السلطة دون أن تكون صاحبة القرار، وتعارض أحيانا قرارات تشارك في صناعتها. هذا التذبذب في الموقف السياسي يخلق حالة من الضبابية، ويضعف القدرة على إقناع الناخب بخطاب متماسك.

إن التموقع في السياسة لا يعني فقط كسب مقاعد أو تقاسم حقائب، بل يتطلب وضوحا في الرؤية وجرأة في الطرح. أما محاولة اللعب على كل الحبال، فهي قد تؤدي في النهاية إلى فقدان الثقة من جميع الأطراف. هناك أحزاب ذات رصيد تاريخي وطني لا ينكر، لكنها اليوم تجد صعوبة في تحويل هذا الإرث إلى قوة اقتراحية. التمسك بالماضي، دون قدرة على تجديد الخطاب أو تحديث الأدوات، يجعل من التاريخ عبئا لا رصيدا. الحديث عن الأصالة والوطنية لا يكفي ما لم يترجم إلى برامج واقعية تستجيب لتحديات العصر. النضال من أجل الاستقلال شيء، وبناء الدولة الاجتماعية العادلة في القرن الحادي والعشرين شيء آخر تماما.

في المشهد المقابل، لا يبدو أن المعارضة تملك رؤية بديلة واضحة. الانتظار السلبي لسقوط الحكومة بفعل أخطائها لا ينتج تغييرا، بل يعمق الأزمة. النقد ضروري، لكنه لا يغني عن تقديم تصورات واقعية ومقنعة. بعض الأحزاب التي كانت رمزا للفكر التقدمي، لم تعد قادرة على استنهاض هذا الإرث. وحتى القوى التي رفعت شعار التجديد، غرقت في صراعات داخلية أو تحولت إلى كيانات هامشية فاقدة للبوصلة. الأزمة الحقيقية التي تعيشها الأحزاب المغربية تكمن في تحول السياسة من فضاء للخدمة العامة إلى مهنة لكسب المواقع. لم يعد السياسي يسأل نفسه: “ما الذي يمكن أن أقدمه لبلدي؟”، بل: “كيف أحافظ على موقعي؟”.

هذا التحول جعل من الأحزاب أشبه بمقاولات تبحث عن الربح السياسي بدل السعي نحو التغيير الاجتماعي. ولهذا السبب، أصبح الخطاب السياسي متشابها، لا فرق فيه بين سلطة ومعارضة، سوى في شكل التعبير لا في جوهر المواقف.

في ظل هذا الواقع، يقف الناخب المغربي في مفترق طرق. تشير الدراسات إلى تشاؤم واسع بخصوص المستقبل القريب، وهو ما يعكس شعورا متزايدا بالإحباط. لكن هذا الإحباط لا يعني بالضرورة جهلا، بل قد يكون تعبيرا عن وعي ناضج برفض المشاركة في مشهد لا يقنع. الناخب اليوم يملك من الذكاء ما يجعله يميز بين الخطاب الحقيقي والخداع السياسي. ولم تعد الشعارات الجوفاء قادرة على استمالته، كما لم تعد الوجوه المتكررة تثير لديه الحماس.

المغرب لا يحتاج إلى ثورة ضد النظام، بل إلى ثورة داخل الفكر السياسي نفسه. المطلوب هو إعادة تعريف دور الحزب السياسي، وبناء علاقة جديدة بين النخبة والمجتمع، تتأسس على الشفافية، والمحاسبة، والنتائج الملموسة. الزمن تغير، والمواطنون لم يعودوا يقبلون بالأعذار. من لا يملك رؤية للمستقبل، لا يمكنه قيادة الحاضر. ومن لا يستوعب تحولات المجتمع، سيبقى خارج الزمن السياسي الفعلي.

تقف الأحزاب المغربية اليوم أمام خيارين: إما الاستمرار في منطق البقاء على الوضع القائم، وإما الانخراط في مسار تغيير حقيقي. الخيار ليس صعبا نظريا، لكن تنفيذه يحتاج إلى شجاعة سياسية. الزمن لم ينفد بعد، لكن النافذة تضيق. والانتخابات المقبلة ليست مجرد موعد انتخابي، بل اختبار حاسم لصدق الإرادة السياسية. إما أن تنهض الأحزاب لمستوى المرحلة، أو أن تترك مكانها لقوى جديدة، أكثر جرأة وأكثر ارتباطا بنبض الشارع.

Exit mobile version