Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

الاستثمار في العقل بدل الجسد

سناء البوعزاوي
لطالما تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن الله ميز الإنسان عن الحيوان بميزة العقل، وكرمه أحسن تكريم بذلك، وحبا الدماغ البشري بخصائص فريدة عن باقي مخلوقاته، فكيف أصبح الإنسان في عصرنا الحالي يعطي أولوية للجسد أكثر من العقل أو لربما في بعض الحالات يتناسى العقل تماما ويصبح التوجه والتركيز على كيفية جعل هذا الجسد مثيرا للجنس الآخر.
في مقالنا هذا مازلنا متشبثين بصحة مقولة “العقل السليم في الجسم السليم”، لكن هاته العبارة تنضوي تحت غطاء الصحة بما فيها الرياضة وكذا التغذية الصحية المفيدة لهذا الجسم، لكن عندما تتقهقر الأخلاق وتنحط القيم وتتلاشى المبادئ يصبح الجسم السليم أو بالأحرى الجسم المثير، يحتل مرتبة أهم من العقل أو يمحيه بالمرة.
فأصبحنا نلاحظ في مجتمعاتنا ترويجا خياليا لمواد صناعية خطيرة جدا وفي بعض الأحيان مجهولة المصدر، تساعد الناس وخصوصا بعض النساء في تكبير مناطق معينة من أجسامهن، لاعتقادهن أن الشكل الجديد سيعطيهن شخصية وقيمة أكثر، تقبلا أكثر في المجتمع، والأخطر من هذا كله إثارة أكثر، ظنا منهن أن هذا الجسم الجديد، سيفتح لهن أبوابا جديدة للرزق، أو على الأقل سيفتحن بهذا قنوات على منصات وسائل التواصل الاجتماعي وسيستقطبن بهذا العديد من المتابعين!
نعم، في القرن الحادي والعشرين، أصبح الاستثمار في الجسد للبعض أفضل، وأثمر وأنجح، وأنجع من الاستثمار في العقل الذي به يسمو الإنسان درجات علا، فكما يقول الشاعر: “من رام صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر”، حتى أن الفكر الفلسفي القديم اعتبر أن الوجود الإنساني المؤلف من نفس وجسد، يتسم بعلاقة تراتبية حيث إن النفس أعلى شأنا من الجسد من الناحية الأنطولوجية والإبستيمولوجية، والأخلاقية، والسياسية، وحتى الجمالية، فقد حذر “أفلاطون “من الولع به على لسان سقراط: “إن قضيتي الوحيدة أن أجوب الشوارع لإقناعكم جميعا، شبابا كنتم أم شيوخا، بألا تولعوا بالجسم، ولعلكم بالنفس سعيا لجعلها خيرة ما استطعتم”.
فعلا إن الله جميل يحب الجمال، ولكل زمن معاييره ولكل مجتمع مقاييس يقيس بها الجميل، لكن عندما يطغى التفكير في الجسد على حساب العقل والنفس يصبح الأمر جهلا! فلذا يجب دق ناقوس الخطر، قبل تفشي هاته المعضلة المجتمعية وتفاقمها أكثر فأكثر، ويجب التحسيس بأهمية الاستثمار في العقل وعضلاته! بدلا من إنهاك هذا العقل في التفكير في خلطات ووصفات قد توصف بالجنونية لخطورة فحواها وتركيبة موادها، والتي تحول الجسد إلى آلة إثارة، وفي بعض الأحيان إلى قنبلة موقوتة ستتفجر بأمراض وأعراض جانبية، لا يحمد عقباها!
فأصبحت شريحة عريضة من شباب مجتمعنا اليوم لا يهمهم تنمية هذا العقل بالثقافة وتحصيل العلم، بل أصبحوا يغزون مواقع التواصل الاجتماعي بكافة أشكاله، ويؤثرون سلبا على متابعيهم من الأطفال والمراهقين الذين لا يلبثون يسيطرون على تغيرات هرموناتهم، وتأثيرها على نفوسهم وعلى تصرفاتهم حتى يحموا أنفسهم، أمام مثل هاته المحتويات التي تساهم في اضطراب توجهاتهم، وأفكارهم وأنظمة قيمهم وكذا أولوياتهم في حياتهم، فتتغير بذلك اهتمامات، البشر والذوق والحس الجمالي والأخلاقي، فأمام هذا الطوفان الجارف، السؤال الخطير الذي يجب أن يطرح هو، ما العمل إزاء هاته الظاهرة؟
كما هو متداول على نطاق عالمي فأي منتوج، أو خدمة إذا لم تَلْقَ من يستهلكها فإنها تبور، فلذا على كل فرد أو أسرة أن تحتوي أطفالها وأن تتقرب إليهم أكثر من ذي قبل، لأن المغريات أصبحت أكثر فأكثر في وقتنا الحالي، فالمراهق اليوم هو حصاد نبتة تربية الطفل الذي تزرعه الأسرة، فمن الضروري تثبيت القيم، وترسيخ الثقافة، وتحبيب العلم في نفوس فلذات الأكباد، لكي يتجذر لهم مصل قوي وتتكون لهم مناعة قوية عند الاصطدام بهاته الفئات من المجتمع التي تدمر عن قصد أو غير قصد أخلاق وصورة مجتمع بأكمله.
ففي عالمنا المعاصر، يعتمد الإعلام بشكل كبير على الصورة فإذا توفرت للأجيال الجديدة القدرة والكفاءة والرؤية الصحيحة فيمكنهم بذلك التصدي لسلطة الصورة، ويكون للمتلقي بذلك حس انتقائي، وتجاوز العواطف والغرائز … وينبذ اختزال الجسد الإنساني إلى جسد مشتهى، يطيح بكرامة الشخصية الإنسانية.
فمستقبل البشرية يتأتى بتحقيق الذات، وتنوع الثقافات والعمل الإبداعي المنبثق من العقل والدماغ البشري، والذي يجعلك خالدا حتى بعد الممات، بينما جسدك ومهما كانت استثماراتك فيه، سيوارى يوما تحت الثرى، وسينتهي بك المطاف بصورة تذكارية ربما تعلق على الجدران لسنوات ثم تضمحل.

Exit mobile version