Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

البحث العِلمي يحتاج إلى حكومة علماء لا إلى متحزِّبين ومنتفِعين

AFP_GQ9YZ

محمد فارس
لقد رأينا في المقالة السابقة أنّه لا فرق بين الشّرق والغرب في اللّجوء إلى العِلم الصارم، والتّقنية، يعني (التكنولوجيا)؛ قد يكون هناك من الفرق الواسع في وجهات النظر، أعني في المبادئ والأهداف، وقد تكون الأهدافُ مختلفة في غزو الفضاء مثلاً أو في إيجاد لقاح لوباء أو مرض، لكن الوسائل لا تُترك في أيدي أصحاب الأهداف، والرغبات والسياسات التي تُنتَج داخل القاعات أو تحت قبَب البرلمانات، بل توكلُ إلى رجال العلم، وفي هؤلاء الرّجال لا تكاد تُدرك فارقًا بيْن [أمريكا] و[الصين] مثلاً، ومن هنا نشأتْ فكرة تراها متواترة على أقلام المفكّرين، بأن تكون العمليات التّنفيذية كلّها، وفي شتى الميادين، وهذا معناه [الحكومة]، في أيدي علماء فنّيين، لأنّه لا دخْل لِلسّياسة في ذلك، هذا على فَرْض أن الفكر السّياسي نفسَه لا يزال يتعلّق بالرّأي والرّغبة، ولم يتحوَّلْ بعدُ إلى بحوث علمية فيها كلّ الدقة التي يتطلّبها منهجُ التّفكير العلمي كما هو الشّأنُ في بلادنا للأسف الشّديد، حيث لا السّياسيون بسياسيين حقّا، ولا الأحزاب بأحزاب صدْقًا، أما البرلمانُ فهو دارُ ندْوة للعوام ليس إلاّ، والعوام كما قال الإمام [مالك]: [إذا اجتَمعوا، أَفسدُوا]، وقد رأيتهم كيف يقسّمون المليارات في ما بيْنهم، وكيف يتسابقون على الحلوى، ثم سُحْقًا لهكذا برلمان..
ليس تحويلُ أداة الحُكم إلى جماعة العلماء الفنّيين بالفكرة الجديدة، بل تراها هي المحور الذي أقام عليه [فرانسيس بيكون] مدينته الفضلى التي أسماها [أطلنطِس الجديدة]، بل ولماذا لا نَردّ جذورَ الفكرة إلى [أفلاطون] حين أراد أن يكون الحكمُ للفلاسفة؟ لقد رأيتَ في بداية وباء [كورونا] كيف بدَا رئيسُ الحكومة عبْر التلفزة جاهلاً بالوباء، وبأرقام الـمُصابين، وبالإجراءات الموجبِ اتّخاذُها، لوْلا حكمة جلالة الملك المباشِرة والصارمة في الموضوع وإلاّ لكانت النتائجُ كارثية.. ورأيتَ كيف اغتنى وأثرى وزيرٌ ثريٌ وتفاقمتْ ثروتُه وحقّق أرباحًا طائلة خلال فترة الوباء، ويطمح الآن بكل الأساليب والأكاذيب ليصير رئيسًا للحكومة قريبًا، فأيّ بحث علمي سيرعاه هذا ويسهر عليه وضالّتُه المالُ وجمع الثّروة بأيّة وسيلة في بلد يخلو من المراقبة وتنعدم فيه المحاسبة؟!
قد يسألني القارئ الكريم: [وهل حدثَ في التاريخ العربي أن كان الحاكمُ فيلسوفًا؟]؛ الجواب: [نعم، حدث ذلك]: لعلّ أول اتّصال حقيقي بالعلوم العَقلية يعود إلى العهد الأموي، فقد أُثِر عن [خالد بن يزيد بن معاوية] أنّه كانت له محبّة للعلوم، وكان شغوفًا بالكيمياء، فأمرَ بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممّن كان ينزل بمصر وله اضطلاعٌ بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصّنعة من اللّسان اليوناني، والقِبْطي إلى العربية، وكان ذلك أوّل نقْل في الإسلام من لغة إلى لغة؛ لكن هذا الخليفةُ الفيلسوفُ لم يُعمِّر طويلاً حتى جاءت الدّولة العباسية، فشهِدَت التّرجمةُ نقلةً نوعية وخاصّة في عهد [المأمون] الذي أسَّس [دارَ الحِكمة] وجعل فيها المترجمين الذين نَقلوا إلى العربية عشرات الكتُب من اليونانية والفارسية والسّريانية إلى العربية، إضافة إلى تمعُّن [المأمون] في العلوم النّقلية، فقد اضطلعَ بالعلوم العقلية وكان شغُوفًا ومتأثّرًا بفلسفة [أرسطو].. قد يهتف القارئُ الكريم: [هل مِن مزيد؟]؛ الجواب: [نعم!]..
كان [الحكمُ الثاني المستَنْصِر] في [الأندلس] يلقّب بـ[المأمون]، لقد كان مشغوفًا بالقراءة، واسع الاطّلاع، غزيرَ العِلم، جمعَ كثيرًا من الكتب حتى زخَرت خِزانة [قُرطبة] بأربعمائة ألف كتاب، وهو رقمٌ كبير جدّا في زمن لم تُعْرف فيه الطباعةُ بعدُ، وكان يُرسِل الرّسلَ لابتياعِها من [دمش] و[بغداد] و[القاهرة]، وبلغ اهتمامُه بجمع الكتب أنّه كان إذا ظهر كتابٌ جديد، بعث إلى صاحبه في طلبِه، ومن ذلك أنه لـمّا علمَ بظهور كتاب [الأغاني] لـ(أبي الفرج الأصبهاني)، طلبَ من مؤلِّفه أن يَبيعه إياه، وبعثَ له بألف دينار ذهبًا، فبعث به إليه قبْل أن يرسله إلى [العراق]؛ حكمَ [المستنصِرُ] [الأندلسَ] ستّ عشرة سنة، عرفتْ فيها البلادُ حركةً علميةً وثقافية، فلُقِّبَ بـ[مأمون الأندلس]..
خلال ظهور جائحة وباء [كورونا] ظهر على شاشة التلفزة، رجلٌ أحبّه المشاهدون، وكانوا يحْرصون على متابعة ما يعطيه من أرقام دقيقة، وإحصائيات علمية، ونصائح، ولـمّا رأوا افتتان الشّعب به، وبطريقتِه في الحديث إلى جانب ما بدا عليه من [charme] وقَبُول، أزاحوه، فانفضّ المشاهدون ولم يعودوا يتابعون أخبارَ [كوڤيد]، وكذلك يَفْعلون بكلّ عالم حقيقي، والتّلفزةُ تقدّم لنا نماذج باعتبارهم علماء في الأوبئة، فيما هم مجرّد موظّفين مثلهم مثْل موظّفي الإعلام، وذلك هو سببُ تردّي الأحوال الصّحية في المستشفيات، وخُلو إعلامِنا من أيّ تأثر؛ فكلّ القطاعات يديرها موظّفون لا خبراء وفنّيون، ثم ويْل لكلّ مَن برزَ كعالمٍ حقيقي، الشّيء الذي جعل علماءَنا يهاجرون إلى بلدان العِلم والمعرفة..

Exit mobile version