Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

الثّقافة والصّحافة أيّةُ علاقة؟

محمد فارس
عندما عيّـنَ [ديغول] وزيرًا للثقافة هو [أَندريه مَالرو]، ألقى هذا الأخيرُ خطابًا تاريخيًا في [الإليزيه] أمام رئيس الدّولة وشخصيات ثقافية وازنة في [فرنسا] فقال: [الثقافةُ هي عندما يتساءل الإنسانُ عمّا يفعله في هذه الأرض]؛ لكن لماذا اختار [ديغول] هذا المفكر، والأديب، والفيلسوف لهذا المنصب المهمّ جدّا؟ لأنّ [ديغول] نفسه كان مثقّفًا ويعْرف قيمة الثّقافة وأهمّية هذا المنصب، فاختار من هو أكفأ ومن هو أهل له ومَن هو؟ إنّه [مالرو] مؤلفُ [الوضع الإنساني؛ والطّريق الملكي؛ والأمل] والحائزُ على جائزة [گانكُور]، والمحاربُ القديم، فكان الرّجلُ المناسب في المكان الـمُناسب؛ هاجمه [سارتر] بالقول: [لقدِ ارتميتَ بيْن يديِ الحكومة]، فردَّ [مالرو] قائلاً على هذا الانتقاد: [J’y voyais la nécessité]، فكان في مستوى هذه الضرورة، ولا أحدَ يُمكنه التّقليل ممّا قام به هذا الوزير، المفكّر في ميدان الثّقافة في [فرنسا]، بلِ اعتَرفَ بإنجازاته حتى خصومُه، وبرزَ خلال وزارته مثقّفون، ومفكّرون، ونشرت كتبٌ، وسادت القراءةُ كافة الشعب الفرنسي، وتطوّر النشرُ والطِّباعة بشكل مُلفِت..
لكن ما هي [الثقافة]؟ يُقال: ثُقّف الرجلُ ثقافةً أي صار حاذِقًا؛ والرجلُ المثقّفُ هو الحاذِقُ الفهم؛ شاب ثُقّف أي صار ذا فطنة وذكاء.. والثّقافة بالمعنى الخاص، هي تنمية بعض ملكات العقل؛ والثقافةُ بالمعنى العام، هي ما يتّصفُ به الرّجلُ الحاذِقُ من ذوْق، وحسّ انتقادي، وحُكم صحيح.. ومن شَرْط الثقافة أن تُؤدّي إلى الـمُلاءمة بين الإنسان والطّبيعة، وبينه وبين المجتمع، وبينه وبين القيم الرّوحية والإنسانية؛ وفي بعض اللّغات كالألمانية مثلاً، فإنّ لفْظ الثّقافة يدلُّ على معنى الحضارة، وتدلّ في لغات أخرى على مظاهر التّقدم العقلي وحده؛ لكن لماذا تعيش بلادُنا بؤْسًا وجمودًا في ميدان الثقافة؟ السبب هو أن هذا الميدان يُشْرف عليه أفرادٌ غيرُ مثقّفين، اختارتهم حكومةٌ غيْر مثقّفة ولا تُدْرك قيمة الفعْل الثقافي فتُعيّن فيه أيّ وزيرٍ لملْءِ الفراغ، وزير بلا كفاءة..
ومن الغريب في بلد الغرائب، هو أن يكونَ وزيرُ الثّقافة الفاشل هو وزير الاتّصال، أي الإعلام؛ مع العِلم عند الفلاسفة والمفكّرين هو أنّ بيْن الإعلام والثّقافة من الفرْق النّوعي البعيد ما يُعرّضنا للخطر إذا نحن جمعناهما في ساحة مشتركة، ووضعناهما تحت عنوان واحد؛ ولكي أُوجز الفرقَ بيْن الإعلام والثقافة، أقول إنّ الإعلام يصوّر لنا الحياةَ كما يرادُ لها أن تُعاش، وأمّا الثقافةُ فتُصوّر الحياة كما هي مُعاشة بالفعل، ولكنّها تصوّرُها بعد عجْنِها وخبْزِها في إفرانِ الأدب والفن وما يلْحَق بالأدب والفنّ من ضروب الصّياغة؛ والناسُ عادةً لا يَختلفون على معنى [الإعلام]، لأنّ معناه واضح من منطوق اسمِه، لكنّ حكومة التّجار يتعذّر عليها إدراكُ الفرق بين الثّقافة والإعلام، فهي تَجهَل أنّها تَجهل، لذلك جمعتْ بين قطاعيْن لا رابطَ بيْنهما، فضاعتِ الثّقافة وتأزّمت الصّحافة بسبب وزير لا هو بمفكّر يَعرف قيمةَ الثّقافة، ولا هو بخبيرٍ في ميدان الصّحافة، وإذا أُسندتِ الأمورُ لغير أهلها، فانتَظِر الكارثة، وهذه الكارثةُ حلّتْ بالثّقافةِ والصّحافةِ وكلاهُما يعيشان بُؤْسًا ويَأسًا وجُمودًا مستدامًا..
إن ميدانَ الثّقافة قطاعٌ مستقلّ، قائمٌ بذاته، له ميدانُه الخاص؛ وقطاعُ الإعلام، هو قطاعٌ آخر، له مجاله، وله رجالُه، وله مهامُّه، فلا يجب الجمع بسبب الجهل بيْن قطاعيْن مختلفيْن يديرهما وزيرٌ كيفما اتَّفق، فلو كان وزيرًا مثقّفا حقّا وصدْقًا لرفضَ هذا المنصب المركّب من نقيضيْن، ولبيَّن لحكومة التّجار أنّ هناك فرقًا شاسعا بيْن الثّقافة والإعلام، ولكنّه وزير يهتمّ بما يدرُّه منصبُه عليه من فوائدَ مادّية ودَخْلٍ مرتفع لا يتطلّب منه أيّ مجهود أو كفاءة أو قُدرات.. لو كان [ديغول] مثلا، قد كلّفَ [مالْرو] بالثّقافة والإعلام، وهذا مستحيل في بلد الدِّقة في اللّغة، لرفضَ [مالرو] الجمْعَ بيْن قطاعيْن، ولما ساهَم في هذا الخطإ الذي ينمُّ عن جهل وتَخلّف؛ وفي بلادنا حالاتٌ أخرى متشابهة مثل الجمع بين التعليم والرّياضة، لأنّ التعليم ميدان تربية ومعارفَ له خبراؤُه، وميدان الرياضة هو قطاعٌ آخر يهتمُّ بالأبدان، لا بالأذهان، فكيف جاز الجمعُ بيْنهما؟ وهناك خطأ آخر، هو الجمعُ بيْن رئاسة جامعة كرة القدم، ووزارة تهتمّ بالمالية والخزينة، فيما هما قطاعان مختلفان تمامًا، لكن في حكومة التّجار، النّقيضان يجتمعان في كلّ شيء؛ ياه!

Exit mobile version