Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

الحرب القادمة…النزوح الكبير إلى سبتة ومليلية

ادريس هاني

في حركة النزوح التي رأيناها منذ أيام باتجاه سبتة المحتلة، تثير أكثر من تساؤل، فمن جهة تقييمنا الداخلي للصورة التي تعكسها تلك الحركة، تثير حسرة تعثر المغرب الممكن. إنّها العاطفة التي تجعلنا نتأسف على مغرب لم يصبح في مصاف الدول التي يخف فيها وازع الهجرة إلى الشمال. ولكنه حلم غير واقعي، لأنّ حلم الهجرة إلى الشمال هو حلم كل بلدان الجنوب، وهي مشكلة دولية معقدة محكومة بعلاقات غير متكافئة بين الشمال والجنوب. هؤلاء لم يغادروا المغرب كفرا بوطنهم بل كفرا بالفقر الذي يساوي الغربة في الوطن. ولكن لا بدّ من قراءة الوضع في مداه الأبعد والمُلحّ، في سياق معارك السيادة مع شمال لا زال حريصا على تفكيك كيانات الجنوب وابتزازها والاستهتار بمبادئ حسن الجوار.
لم يختر المغرب موقعه الجغرافي الذي يفصله بضعة كيلومترات عن إسبانيا، كما لا يفصله سوى بضعة أمتار إذا تحدثنا عن سبتة ومليلة السليبتين. وبذلك بات المغرب قبلة لاستقبال النازحين ومحطة للعبور إلى ديار الحلم الأوربي. النازحون معظمهم من أفريقيا جنوب الصحراء، وهذا لا يعني غياب نازحين مفترضين محلّيين.
للنزوح أسباب موضوعية شتى، الحروب واحدة منها، الفقر والتهميش ولعنة العالم الثالث أسباب أخرى أيضا. بهذا، فالنزوح من العالم الثالث إلى أوربا لا يقل عن موجة النزوح من أوربا الشرقية إلى غربها.
خلال السنوات الماضية تضاعف عدد الأفارقة الذين عبروا إلى المغرب في انتظار فرصة لبلوغ بلد الأحلام، وكان ذلك قد لفت انتباه دول الاتحاد الأوربي، مما أسفر عن مسلسل من المساعي والمؤتمرات والاتفاقيات لاحتواء موجة الهجرة السرية وما تمثله من مخاطر كما سبق ووصفتها ميركل. وفضلا عن موقعه الجغرافي الاستراتيجي بالنسبة لحركة الهجرة السرية، فقد شاء القدر الجغرافي أن يجعل المغرب في قلب الأمن الأوربي، بل سيضاف إلى ذلك تطور العلاقات المغربية الأفريقية وجملة الأوراش التنموية المفتوحة التي جعلت المغرب قبلة للأفارقة الذين يستطيعون الدخول من دون تأشيرة.
وكان المغرب قد واجه تحديا مزدوجا، وهو حماية ظهر الاتحاد الأوربي وبذل في ذلك مساعي تأطيرية كبيرة انتهت بإدماج بعضهم في المغرب. هذا في الوقت الذي كانت بلدان الاتحاد الأوربي تنهج سياسة أخطر بكثير في إطار نوع من تهذيب عملية استقطاب المهاجرين من خلال اشتراط المؤهلين منهم من ذوي الكفاءات والشهادات، وهو ما شكل تحدّيا تنمويا وحضاريا للمغرب، أي أن الاتحاد الأوربي وفي الوقت الذي اعتمد على المغرب لكبح جماح الهجرة السرية، كان يشجع على هجرة الكفاءات والأطر، مستغلا الفارق التنموي بين المغرب والاتحاد الأوربي، مما يعني أنّ المغرب سيصبح منتجا للأطر والكفاءات لصالح الاتحاد الأوربي، بينما تنحصر مهمته في إدماج النازحين من غير المؤهلين في بلده. هذا يعني بالمعايير التنموية إضافة عنصر من عناصر التخليف الذي يضرب مخرجات البنية التعليمية.
ولا شكّ أن المغرب لا زال يواجه تحديات تنموية كبيرة على الرغم من كل المحاولات المبذولة. والتشويش على المسار الطبيعي للتنمية يربك تحقيق النتائج، لاسيما مع انسداد أسواق الشغل وهشاشة البنيات التعليمية والصحية والفساد البنيوي الذي يضرب التنمية الثالثية المعاقة، والعمل في ظلّ سياسات تحكمية لصندوق النقد الدولي.
أضاف المغرب إلى جملة التزاماته مع الاتحاد الأوربي حراسة حدوده فضلا عن التعاون الأمني حول ملف الإرهاب، كان الثمن غاليا، لكن ما الذي حدث عشية تدفق موجة عارمة من النزوح عبر بوابة مدينة لفنيدق، التي انتهت بتوتر ديبلوماسي أدى إلى استدعاء سفيري البلدين قصد التشاور؟
عاش المغرب وإسبانيا لحظات محكومة بتراجع الثّقة، لحظات حرب التأويل، وذلك حينما كشف المغرب وحرّك قصة انتقال زعيم الحركة الانفصالية بجواز سفر ممنوح وإسم مزور، وهو مطلوب في ملفات جنائية في إسبانيا. التبرير الإسباني كان مختصرا: إنّ غالي استقبل للعلاج لظروف إنسانية. غير أن موقف المغرب كان مختلفا، وهو أنّ الرجل دخل بطرق غير قانونية، وهو في إصداره قرارات معادية من داخل التراب الإسباني ضد المغرب، يجعل الإسبان طرفا مسؤولا. وهذا يعني أنّ المغرب سجل على مدريد مخالفة تمس بمبدأ واتفاقية حسن الجوار، فكانت المعاملة بالمثل. والصورة التي ظهرت عليها عشوائية النزوح، تؤكد على أنّ المغرب أراد أن يخاطب إسبانيا بلغة الأنسنة كما جاءت في خطاب التبرير، فالنازحون هم هنا طالبي لجوء إنساني، فهي حرب تتوشح خطاب الأنسنة، وفي الوقت نفسه دحض للمغالطة.
إنّ أسباب النزوح هي السياسات الاستعمارية في أفريقيا شمالا وجنوب الصحراء، التي جعلت الآهالي غير قادرين على بناء حلمهم في بلدانهم.
الملفت هنا، هي أن مدريد وبالتالي الاتحاد الأوربي مضطر أن يستقبل هجرة مفتوحة غير منتقاة من أهل الكفاءات. وبأنّ المغرب غير معني بإكمال مشوار حماية الحدود الجنوبية للاتحاد الأوربي. وبأنّ جزء من هؤلاء هم مغاربة أيضا، فغريزة الهجرة إلى الشمال لها موسم، ولكنها اليوم هي ضربة حظّ سياسية.
لا أريد الخوض فيما يجب أن يكون، فحتى يستطيع المغرب أو عموم العالم الثالث أن يلجم الساكنة عن الهجرة إلى الشمال، هذا يتطلب ثورة العالم الثالث برمته: هجرة المكسيكيين إلى أمريكا الشمالية، هجرة الأسيويين والأفارقة وأوربا الشرقية إلى أوربا. لكن، ما يهمني هنا هو تسليط الضوء على مثالين: أحدهما قام به أوردوغان حينما لوّح بفتح الطريق أمام النازحين إلى أوربا، مستعملا ورقة النزوح في حرب سياسية، والثاني ما قام به المغرب. في المثال الأول اعتبر موقف أوردوغان موقفا قوميا وثوريا، مع أنّ رهاناته كانت تتعلق بسياساته في شرق المتوسط وليبيا وقبرص وشرق الفرات. تركيا أعلنت حربا يوما ما على سوريا ولم تقف حتى اختطفت زعيم البي كي كي وأعادته إلى تركيا، بالتأكيد لا زال المغرب لم يقم بأي عملية من ذلك القبيل، كاختطاف أحد زعماء الحركة الانفصالية، ولكنه احتج بوسائل ديبلوماسية في البداية ثم حرك ورقة النازحين لإشعار الطرف الأوربي بأنّ حراسة حدوده الجنوبية لا يمكن أن تكون مجانية. كما أنها إشارة لتخلي المغرب عن كثير من التزاماته، وقد نسمع إن استمر الوضع على حاله حوادث إرهابية كتلك التي ضربت مدريد في فترات تراجع التعاون بين الرباط ومدريد. الأمور معقدة والاتحاد الأوربي هو الطرف المعني بتدارك المشكلة.
ستدرك مدريد والاتحاد الأوربي معها بأن هناك أكثر من ورقة في هذه الحرب الباردة: ورقة الصيد البحري، وورقة الهجرة السرية. هذه الأخيرة من شأنها أن تشكل مدخلا لتحريك ملف سبتة ومليلية، إعادة استرجاعها من خلال نزوح جماعي مفتوح على كل الاحتمالات، وتفجير الحدود الجنوبية لإسبانيا. ولا شكّ أن الاتحاد الأوربي أكثر عقلانية من أن يترك التوتر يتجه نحو خيارات أخرى. اليوم المعركة مفتوحة وهي أكبر من أن تقرأ بعين الأزمات الخانقة التي يعيشها المغرب في تدبيره لشؤونه الداخلية، بل هي قضية تتعلق بمعارك السيادة المفتوحة، وحين تتطور الأوضاع فإنّ كلّ بلد يستعمل كل أوراقه، ويستطيع المغرب أن يواجه إسبانيا عند اشتداد الوضع بالمعقول واللاّمعقول، بأوراقه المتقدمة وحتى بأوراقه المتخلفة، فالحرب حين تصبح مفتوحة ولو برسم الحرب الباردة، فإنّها تجعل كل الضربات ممكنة.
فالسؤال الذي يتجاوز إرادة الانعتاق من الوضعيات الاجتماعية الهشة، هو : إلى أين ستمضي بعض دول الاتحاد الأوربي في سياسة الكيل بمكيالين، وهل المغرب كما تريده هذه الدول هو مجرد حارس لحدودها الجنوبية أم ثمة حقّ في المقابل تقتضيه السيادة والمصلحة والتوازنات؟ يملك المغرب قنبلة النازحين والهجرة السرية التي تجر معها رصيدا تاريخيا من آثار استعمار أوربا لأفريقيا شمالا وجنوب الصحراء، وهي في ظني أقوى من القنبلة النووية.
ادريس هاني:20/5/2021

Exit mobile version