بقلم: الصحفي و الناقد و الكاتب العراقي ستّار زكم
( ماذا فعل كل المحرومين والجائعين حتى يكون كل نصيبهم من الدنيا رغيفا أسود ) .
من هذ المقطع الصغير الذي اجتزأته من خاتمة مذكرات الشاعر والروائي المغربي حسن المصلوحي
فكانت آلام العوز والجوع والفقر والفاقة صرخات مدببة فجرت الطاقات الإبداعية الكامنة في ( أنا ) الشاعر . فأستخدم ( الرغيف الأسود ) كإشارة واضحة وعلامة دالة اشتغل عليها بمثابة رمزية تشير الى سوداوية العيش وضنكه وتشير أيضا الى بياضات الطفولة التي تحطمت أمام الخبز الأسود، زاد الطفولة والعائلة . كما ينزاح الكاتب أيضا نحو مساحات التسلط التي تحرم المجتمع من العيش الرغيد ويبقي حلم الطفولة قائما يشير بأصبع البراءة نحو واقع مرير يلسع الجسد كل يوم … تلك المرحلة التي غلفها الكاتب بأسئلة الطفولة … الأسئلة الوجودية البريئة .
(قال لي والدي الحاج أحمد بأن الله عليم بما في الصدور
إذن لماذا بلّل محفظتي وهو يعلم أني أحبها ولا أملك غيرها ؟
يقول أخي محمد أن السبب هو الخرم الموجود في سقف البرّاكة وأن الله أعطاني عقلا كي أتجنب وضع أشيائي في الأماكن التي تتسلّل منها قطرات المطر .. أفكر: آه لو أعطى الله لوالدي المال، لاشترى لنا بيتا بدون قصدير ) . ص22
هذا مقطع صغير مما خطه الكاتب في مدونته الأولى ( تاغنجة ) حيث يتسع الكاتب في مدونته هذه نحو ترابط الأشياء بطريقة جدلية توحي لنا أن المصلوحي يعمد إلى ربط موجوداته بطريقة درامية فائقة، فيقدم لك خلطة سحرية متداخلة يمرر من خلالها ما يريد أن يبثه من صور مؤثرة في الحياة اليومية التي عاشها. فالتلوُّن الدرامي الجميل الذي يقدمه الكاتب يعطي صورة مشوقة للقارئ، فهو ينطلق أحيانا من شخوص جميلة ليوصلك فيما بعد إلى حدث ينتظرك / الحدث المأساوي الدامع .
(مازلت أذكر أيضا كم شهد دوارنا من انزلاقات بهلوانية لرجاله ونسائه، شيبه وشبابه. الزنقة – الزقاق – التي تأخذك من باب منزلنا مرورا بالمسجد العتيق وصولا إلى الفرن الذي كانت ترابط على بابه ( مي غضيفة ) رحمها الله، طريق زلق جدا حاز نصيب الأسد من تلك الأحداث الموسمية، ويا للمشهد حين ينزلق أحد الوافدين على الفرن حاملا وصلة الخبز. ترى عجين الحنطة وقد اختلط بلون الوحل. مشهد مأساوي، لكنك لا تستطيع منع نفسك من الضحك. الزحلقة حركة بهلوانية ( الصندالة ) المتطايرة والعجين الذي يحلّق في السماء قبل أن يُقبل الأرض وصاحبه الذي تراه سابحا في الوحل. يختلط الحابل بالنابل في مشهد دراماتيكي هزلي، تُضحك فيه الحركة البهلوانية وتُبكيك مأساة الفقراء، تُضحك اللقطة العفوية ويُبكيك أن رغيف اليوم اصبح في عداد المفقودين ) ص 23
الكاتب هنا لم يكن ساردا لأحداث عفوية معينة بحد ذاتها بقدر ما موجود من ربط موضوعي كما أشرت سلفا؛ فأنت ترى مشاهد متعددة ( انزلاقات بهلوانية / نساء و شباب / أزقة / باب المنزل / المسجد / الفرن / وأخيرا الخبز المتطاير في إشارة واضحة لفقدان الرغيف، ولا أمام الانسان في هذه الاحداث إلا السماء التي تستجيب لضعف الفقراء والجوعى .
لم يُغفل حسن المصلوحي في مذكراته الطقوس الدينية والتقاليد الاجتماعية واستعادة الفلكلور المغربي وهو يروي ممارسات طقسية وألعاب طفولية، بدءا من الليالي الرمضانية داخل المسجد وما يتداخل معها وصولا الى طقوس المقابر . حيث يصحو الطفل منذ صياح الديك هو وزملائه بصب الماء على قبور الموتى لقاء بضع دريهمات تسد بعض حاجاته داخل تلك الفترة الغارقة في مأساة طفل يريد أن يعيش ويبتهج رغما عن أنف الجوع والحرمان والقهر .
فأحيانا يحمل المصلوحي فخاخه ويتجول بين الموت في عمق المقبرة آملا في اصطياد طائر ظال لينتشي بشوائه عوضا عن مأساة يوم مضى به مقهورا . وعند إفلات الطائر من شباك فخاخه يذهب بعيدا في جحور الأرض كي يمارس هواية صيد الثعابين والعقارب / العقارب التي قارن لسعتها بلسعة الحياة القاسية المؤلمة…
ص 26 ص 55 ص 75 ص 76
ثنائية الخوف والفرح متواجدة وملتبسة في مرحلة الطفولة لدى المصلوحي؛ فهو ينام بعد أن يحتضن فكرة الجوع ويستيقظ صباحا إثر تساقط حبات المطر التي تخترق سقف الدار الممتلئ بالثقوب، ليفطر بعدها بخبز يابس وقليل من الزيت بعد أن ينتشي فرحا بمشاركة زميله الجائع في هذا الفطور المتواضع، ليسير بعدها في رحلة مطر عنيف دون مظلة وسط أوحال الطريق ليصل متأخرا الى مدرسته. وبعد كل هذه العذابات التي تختزن داخل قلب المصلوحي المتعب يكون بانتظاره ألم آخر وهو معلم سادي يضرب أقدام الطفولة بسياط التوحش .
(البرد والعصا وجبة دسمة لصباح ابناء الفقراء )، إنها ( الفلقة ) كما يدونها الكاتب، التي أخذت عنوانا رئيسيا في إحدى مذكراته. ص 83 ص 93
من أروع ما تفرد به حسن المصلوحي في مذكراته ( الرغيف الأسود ) هو عنوان ( لاقطات البطاطس أو الموقف ) الذي أخذ حيزا واسعا في سرد تفاصيل حياتية مؤلمة ومؤثرة جدا؛ فالمصلوحي أصبح وسيلة البلبل لإيصال الغناء المدهش حد البكاء، فهو يدون رحلة الشقاء والحزن والترحال … إنها رحلة تنقيب بين أدغال غابته الحزينة بين أشواكها وتينها وعنبها جامعا شظايا الحياة بكل عوالقها في وعاء يتظافر بين المفردة الفصيحة والعامية فدوّن المصلوحي العمل الشاق والمر الذي يتحول أحيانا الى استجداء أمام كروش الإقطاعيين الذين ينهبون جهود الآخر وأحيانا تصل بهم إلى الاعتداءات الغير أخلاقية؛ حين تتعرض امرأة إلى الاغتصاب أو امرأة أخرى ينفلِت جنينها من أحشائها وهي تعمل بجني المحاصيل الزراعية، وشاب آخر يتعرض إلى ضربة خنجر من صاحب العمل أو شباب آخرين يحملون على أكتافهم صناديق الطماطم. إنها رحلة الموت الاستثنائي، الموت الغريب الذي يتراكض نحوه الجوعى والمحرومين بإرادتهم أملا في الحصول على لقمة العيش … اللقمة المشيجة بالقهر، إنها لقمة الفقراء، يدونها حسن المصلوحي الذي عمل داخل هذا الفضاء الأليم .
إن أهم ما يوجد في مذكرات حسن المصلوحي، أنها جاءت من شاعر وروائي استطاع أن يحول الحدث اليومي إلى صورة مدهشة من خلال تعبيراته وتوصيفاته المختلفة والمغايرة، وكذلك الجرأة في الطرح نحو إظهار المسكوت عنه وإزاحة الخطوط الحمراء لمراحل شاهدها المصلوحي عن كثب، وكذلك انعكاسات سياسية واجتماعية على الحياة اليومية التي عاشها. فبدأ يقلب الأوراق الصفراء المتيبسة في أدراج كانت منزوية عن الأعين، وإشهارها على العلن بعد أن قام بحرث المتكلس الذي تراكمت عليه السنين وتقلباتها. فأعاد تثوير المهمل والمنسي في حياة الطفولة. للوقوف بالضد أمام السلبي ومحاكمته عبر مخيلة حولها إلى لغة إبداعية. عبر مرحلة الطفولة حين كانت تميّز بين القبح والجمال والظلم والعدالة الانسانية .
(في حاوية الشاحنة تسمع أردأ أشكال الحديث . إيحاءات جنسية تطارد فتيات ( الموقف ) الأوباش يفضلون ( الملَّاليات )، يلتصقون بهن كما يلتصق القراد بآذان الكلاب. الملّاليات الكادحات من أجل الخبز. أعز ما يطلب في سوق ( الموقف الموحش ) ص 107
الشاعر حسن المصلوحي يذهب بعيدا في الألم حتى في لحظات ابتهاجه وهو يلعب كرة القدم أو أي لعبة أخرى، فهو يربطها بطريقة مأساوية، فالذكريات الصعبة خالدة في ذهنيته وحياته التي اكتوى بنارها منذ نعومة أظفاره. فلا مناص من الوحشة والقلق والجوع حتى في أجمل سعاداته اليومية. إذ يقدمها على طبق الأمنيات والحلم الذي يراوده دائما بغية الخلاص من سوداوية العيش.
( الحياة فرن كبير، يمكن أن تشويك نيرانه ويمكن أن تطهو خبزك اليتيم، ولأن الكرة مهارات ولعب بالريشة والألوان، عليك أن تكون فنانا يتقن تجويد القدر لكي لا يظل الرغيف أسودا ) ص 139
في واحدة من عناوين المذكرات ( الناي الحزين أو الحريق ) . الناي الحزين صورة مغايرة للموت. إنه الأغنية الحزينة حين تتجمد في عيون الصبية بعد المرور بموجات ثلجية كثيفة تغطي البيوت الخاوية لتصبح تلك البيوت أشبه ببرادات الطب العدلي، فالأطفال ربما يحلمون بنار تدفئ أجسادهم المتصلبة أو تنير لهم المكان المظلم . لكن … شمعة واحدة .. واحدة فقط تحرق كل شيء وتحول ( الدوّار ) الى أكوام من الخردة وطفل صغير تلتهمه النيران . لم يستطع أحد الوصول إليه ليتحول فيما بعد إلى جثة متفحمة وسط مشهد يسوده الصمت والذهول مما جرى.
كل هذه الصور السوداوية وغيرها من المآسي يضعها المصلوحي أمامنا على الورق ويحولها الى مشاهد فلمية وكأنك تشاهد عرضا سينمائيا مرعبا. فالفقراء في مدونات حسن المصلوحي يحترقون وأصابع الناي تدوّن أغنية حزينة.
( إنها مأساة الفقراء، يعيشون على هواجس التجمد أو الاحتراق. فالبراريك مصنوعة من الخشب، وشخص معتوه واحد ينام عن شمعته كفيل بأن يحوّل الدوار كاملا الى قطعة جمر ) ص 162
مقاربات طوباوية يدوّنها الكاتب بين بؤس العيش الذي يفطر قلبه يوميا نتيجة التسلطات العديدة في فضاءه الحياتي وبين العيش الرغيد الغير متكافئ تجاه الآخر الذي يقطن خلف البحار في إشارة واضحة يحلم بها كل مواطن مغربي، أن يعيش حياة الرفاهية كأي ابن أو حفيد لقائد كبير فرنسي مثلا في محاولة لتخطي الواقع المؤلم الذي يسوّره دائما والولوج نحو عالم أكثر رخاء وسعادة. كيف لا يحلم المصلوحي ( الطفل ) بهذه الأمنيات البعيدة وهو يقبع داخل جدران متهاوية وسقوف قصديرية.
(ننام مصطفين كعلب السردين في الوقت الذي ينعم فيه أحفاد فرنسا بالنوم الهنيء على الأرائك الحريرية في المساكن الفخمة.أنام رفقة إخوتي نلتحف لحافا واحدا.بينما ينعم حفدة ( دوغول )بغرف نوم مكيفة).
إنها لعنة الفقر تتناسل يوميا في المخيلة … مخيلة الطفولة الأولى التي تنقش الأحداث بالحجر ولا تمحى أبدا مهما تبدل الواقع ( الفقراء الذين يخيطون أحذيتهم بالأسلاك وسراويلهم بالقنب ).
السياق الحكائي مهيمن على ذاكرة الشاعر في جميع مذكراته، والقدرة على تحويل هذا السياق بكل تمظهراته اللغوية والمجازية وحتى الشعرية في تجسيد وإظهار الخلل الاجتماعي والنفسي في آن واحد بعد أن أماط اللثام عن كون مزيف ومختل يمجد سلطة المال وعن أناس جعلوا من هذا المال وسيلة دنيئة لإشباع غرائزهم وشهواتهم نحو إخضاع الآخر لتحقيق مطالبهم الوحشية .
أستشف من كل ما تقدم أن المصلوحي عمد إلى تدوين هذه المذكرات وفق تسلسل الحدث السردي المتصاعد مبتعدا عن التسلسل الزمني للأحداث عكس ما نراه في بعض المذكرات للعديد من المبدعين وهذه اشارة تحسب للكاتب لإثارة التشويق عند القارئ .
وقبل الخاتمة .. هناك سؤال يطرح نفسه بقوة: ما الذي جعل الشاعر والروائي حسن المصلوحي يدوّن مذكراته وهو في مقتبل العمر . ربما هو سؤال يتبادر الى ذهن الجميع .
أعتقد بل أجزم أن ما تعرض له الشاعر منذ صغره من عذابات وانتكاسات وحرمان داخل فضاء منعزل وقرية صغيرة مترامية الأطراف وبعيدة عن التطورات العمرانية، وتفتقر لأدنى سبل العيش الطبيعي بالإضافة الى التوحش الإنساني الذي تغلغل في مسارب قريته انعكس بشكل كبير على طبيعة الطفل ومن تم ترك أثرا جسيما في مخيلة الشاعر فيما بعد . فقد تجذرت المعاناة ولم يستطع أحد أن يمحو هذه الذاكرة من حياة الكاتب . فالندوب العميقة مازالت تروي آثارها بحزن بالغ والخبز الأسود الشحيح مازال المصلوحي يتحسس مرارته كل يوم طالما كان هناك توالد واستنساخ للجشع والجريمة وسرقة لقمة العيش من أفواه الفقراء .
أقول أن المدن والدول لا تتغير إلا بتغيّر النفوس وتنقيتها من شوائب الشر وتغيير نمطية السلوك المنحرف لإبعاد شواذ العصر بغية العيش برفاهية وسعادة دائمة .
– تاغنجة / طقس احتفالي خاص بالمطر
– الدوّار / مجمع سكاني عشوائي للنازحين من البوادي
– البرّاكة / المسكن الواحد المصنوع من الخشب والقصدير
– الموقف / المكان الذي يقف فيه العمال
– الملّاليات / الفتيات القادمات من مدينة بني ملال