في 15 شتنبر 2024، شهدت مدينة سبتة المحتلة الواقعة تحت السيادة الإسبانية موجة غير مسبوقة من محاولات الهجرة غير الشرعية، وبينما كانت محاولات عبور الحدود من المغرب إلى أوروبا ظاهرة متكررة على مدار السنوات الماضية، إلا أن هذه المحاولة كانت استثنائية بسبب عدد المشاركين وظروفهم الاجتماعية. فما الذي يدفع الشباب المغربي إلى خوض هذه المخاطرة القاتلة؟ وما هي الظروف التي تجعل من فكرة الهجرة حلماً وحيداً لآلاف الشباب؟
بحسب الإحصاءات، حاول حوالي 14 ألف شخص عبور الحدود نحو أوروبا في شهر غشت فقط، وهو رقم قياسي مقارنة ببقية أشهر السنة التي لم تتجاوز فيها الأرقام 4000 محاولة.
لكن موجة 15 شتنبر كانت ذات طبيعة خاصة، ليس فقط بسبب العدد الكبير، بل بسبب التركيبة الديموغرافية للمهاجرين الذين كانوا في غالبيتهم شباباً في عمر العمل والتعلم، إضافة إلى نساء حوامل وأطفال تتراوح أعمارهم بين 9 و12 عاماً.
هذه التركيبة غير المعتادة تلقي الضوء على مشكلة أعمق: الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع هؤلاء الأفراد إلى مغادرة وطنهم والبحث عن حياة أفضل في مكان آخر.
ما يثير القلق بشكل خاص هو وجود الأطفال بين المهاجرين. هؤلاء الأطفال، الذين لا يجب أن يكونوا مشغولين بأفكار الهجرة في هذه السن، يظهرون إلى أي مدى وصلت الأزمة. تساؤل يُطرح بقوة: ما الذي يدفع طفلاً عمره 9 سنوات إلى التفكير في الهجرة السرية؟ الإجابة تكمن في الظروف المعيشية القاسية التي تعيشها العديد من الأسر المغربية.
غالبية المهاجرين الذين شاركوا في موجة 15 شتنبر جاءوا من مناطق مغربية تعتبر “غير مفيدة” أو “مهمشة” بالمقارنة مع المدن الكبرى مثل الدار البيضاء، الرباط، وطنجة.
هذه المناطق تعاني من نقص في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث لا توجد فرص عمل حقيقية ولا بنية تحتية تساعد السكان على تحسين حياتهم. بل إن بعض المشاركين كانوا من مدن تعتبر متوسطة من حيث الحجم، لكنها بعيدة عن محاور التنمية التي تركز عليها الحكومة.
المهاجرون الذين تمت مقابلتهم قدموا روايات متشابهة حول ظروفهم المعيشية. الكرامة، العمل، القدرة على تأمين مستقبل لأسرهم، هذه هي المطالب الأساسية التي دفعتهم إلى خوض هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، هم شباب لم يجدوا في وطنهم ما يمنحهم الأمل في غد أفضل، فلجأوا إلى الهجرة كحل أخير.
إحدى أبرز النقاط التي كشفت عنها موجة الهجرة هذه هو الفشل الواضح للحكومة المغربية بقيادة عزيز أخنوش في معالجة المشاكل التي تواجه الشباب. فرغم أن البلاد تعاني من ارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب الحاصلين على شهادات جامعية، فإن الحكومة لم تقدم حلولاً فعالة للتخفيف من هذه الأزمة.
في يوم حدوث موجة الهجرة، كان رئيس الحكومة مشغولاً بحضور فعاليات حزبية في مدينة أكادير، حيث تحدث عن قضايا تخص الشباب، لكنه لم يتطرق إلى المشاكل الحقيقية التي يعيشها هؤلاء الشباب. هذا التجاهل الواضح يعكس الفجوة الكبيرة بين الخطاب الحكومي وواقع الشباب المغربي.
إحصاءات البطالة تؤكد حجم الكارثة؛ فنسبة البطالة بين الشباب تحت سن 25 تبلغ 35.8%، بينما تبلغ النسبة 28.1% بين حاملي الشهادات الجامعية. إضافة إلى ذلك، فإن الفترة التي يقضيها الشباب في البطالة طويلة بشكل غير طبيعي، حيث تصل إلى 32 شهراً في المتوسط.
أحد الحلول غير الرسمية التي يعتمد عليها الشباب المغربي للبقاء على قيد الحياة هو الاقتصاد غير الرسمي. هذا القطاع، الذي لم تستطع أي حكومة مغربية الحد من توسعه، يوفر حوالي ثلثي فرص العمل في البلاد. ورغم أن هذه الوظائف غالباً ما تكون ذات أجور متدنية وأمان وظيفي شبه معدوم، إلا أنها تبقى الخيار الوحيد للكثير من الشباب الذين لم يجدوا فرصاً في القطاع الرسمي.
ورغم أن الاقتصاد غير الرسمي يُعتبر “شبكة أمان اجتماعية” تحافظ على قدر من الاستقرار الاجتماعي، إلا أنه لا يمكن الاعتماد عليه في بناء مستقبل مستدام. بمرور الوقت، يصبح هذا القطاع عبئاً على الاقتصاد الوطني، حيث يُضعف القدرة على خلق وظائف ذات جودة عالية ويساهم في تفاقم الفوارق الاجتماعية.
تعتبر فئة “NEET” – الشباب الذين لا يدرسون ولا يعملون ولا يتلقون أي تدريب – من أبرز ضحايا هذه الأزمة، بحسب تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE) في مايو الماضي، يوجد في المغرب حوالي 1.5 مليون شاب من فئة “NEET”. هؤلاء الشباب يمثلون عبئاً كبيراً على الاقتصاد الوطني، حيث تقدر التكاليف التي يتكبدها الدولة نتيجة هذه الفئة بحوالي 60 مليار درهم سنوياً في مجالات مثل الصحة والرعاية الاجتماعية.
رغم أن هؤلاء الشباب يمكن أن يمثلوا فرصة اقتصادية ضخمة إذا تم استغلال إمكانياتهم بشكل صحيح، فإن غياب السياسات الحكومية التي تهدف إلى دمجهم في سوق العمل يساهم في تفاقم الأزمة. كما أن استمرار تجاهل مشاكل هذه الفئة يزيد من احتمالية اندلاع أزمات اجتماعية أخرى.
الأحداث التي شهدتها سبتة في 15 سبتمبر كانت بمثابة اختبار حقيقي للحكومة المغربية، لكن هذا الاختبار كشف عن قصور واضح في قدرة الحكومة على التعامل مع الأزمات الاجتماعية. فبينما كانت قوات الأمن المغربية تواجه تدفق المهاجرين على الحدود، كان رئيس الحكومة غائباً عن الساحة، غير مهتم بالتطورات التي تهدد استقرار البلاد.
وفي وقت كانت فيه البلاد بحاجة إلى قيادة قوية تستطيع تقديم حلول سريعة وفعالة، اكتفى أخنوش بالتزام الصمت. هذه الفجوة في التواصل مع المواطنين تعكس مشكلة أعمق في النظام السياسي المغربي، حيث تبدو الحكومة بعيدة عن واقع المواطنين وغير قادرة على التفاعل مع احتياجاتهم.
موجة الهجرة التي شهدتها سبتة في سبتمبر ليست حدثاً معزولاً، بل هي جزء من سلسلة أزمات اجتماعية واقتصادية تعاني منها البلاد. الشباب المغربي، الذي يمثل شريحة كبيرة من السكان، يعيش في حالة من اليأس والإحباط بسبب غياب الفرص وانعدام الأفق. الحكومة المغربية مطالبة بإعادة النظر في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وتقديم حلول حقيقية تساهم في تحسين ظروف الشباب وتوفير فرص عمل لهم.
الهجرة ليست حلاً دائماً، لكنها تعكس الحاجة الملحة لتغيير جذري في السياسات الحكومية. إذا استمرت الحكومة في تجاهل مشاكل الشباب والفئات المهمشة، فإن موجات الهجرة شتنبر في التصاعد، وربما تتحول إلى أزمة أكبر تهدد استقرار البلاد على المدى البعيد.