بعد أن تحدثنا في الجزء الأول عن مرجعيات المغاربة في السياسة والثانية في الدين والثالثة في الفكر نتحدث اليوم عن المرجعية الفنية، التي تشكلت مع عمالقة في مختلف الفنون من غناء ومسرح وسينما ورسم وغيرها، حيث عرف المغرب أسماء وازنة كانت تعرف قيمة الكلمة، ولمعت أسماء في سماء الفن مثل الشمس في يوم صاف لا غمام يكدر صفوه، وبنت هذه الأسماء مجدها بالتعب وليس بالسوشل ميديا.
يحكى أن أغنية “ما أنا إلا بشر” كتبها أحمد الطيب لعلج وظل يطوف بها على المغنين والملحنين مدة سنة ونصف ولم يجد من يقبلها لأنها صعبة في الأداء، إلا أن التقى عبد الوهاب الدكالي فما أن رآها حتى قال له “لحنها لدي” وكانت أغنية جميلة ما زالت لحد اليوم يتغنى بها المغاربة. سبب خلودها هو أنها وليدة جهد مضاعف بين الكاتب والملحن والمغني.
اليوم نجد أغنية يتم إنجازها في 24 ساعة فقط، لا تتوفر على مقومات الأغنية بل منها أغاني “احتقارية” وأغاني عنصرية وأغاني تافهة، لكن بفعل لوغاريتمات مواقع التواصل الاجتماعي تحقق الترند في فترة قصيرة جدا، لكن ميزة هذه الأغاني أنها تموت بسرعة. بينما أغنية مثل “راحلة” ما زالت حية ومازالت تطرب الأذن وتحرك الوجدان رغم مرور حوالي 60 سنة على أدائها.
بين أغنية 60 سنة وأغنية 60 يوم تقع مرجعية المغاربة، ويكمن الانحدار الخطير، حيث أصبح الفن شبيها بأكلة خفيفة مثل نزوع المغاربة نحو “الفايست فوود” بدل أكلات تقليدية مثل الطاجين وغيره هكذا نزعوا نحو الفن السريع العطب.
لا يمكن بتاتا مقارنة أغنية من العهد السابق يمكن أن ينصت إليها جميع المغاربة وسط عائلاتهم، بأغنية منسوبة لفن الراب كلها كلام ساقط.
وما يقال عن الغناء يقال عن المسرح والكوميديا، فأحيانا كان هناك كوميديون فطريون لم يدخلوا المدرسة، لكن مارسوا النقد اللاذع للظواهر الاجتماعية والنفسية والسياسية، لكن دون “قلة حياء”، أما اليوم وبفعل “البوز” فأصبحنا نسمع كلاما نابيا يصدر من “فنان كوميدي”، لا يضحك إلا نفسه في حضرة مسؤولين رسميين.
رغم بساطة الواقع كانت لدى المسرحي رؤية لما هو فن المسرح، وكان هناك فكر مسرحي يطرح أساليب جديدة ونظرة متجددة، ولهذا كان الفن متعاليا عن السقوط في الترهات بدعوى القرب من المجتمع، فالفن القريب ليس هو الذي ينقل الواقع، ولكن يخلق وجودا آخر للواقع يرسم مستقبلا ويتطلع إلى التغيير.
وما قلناه هو مجرد نموذجين فقط من نماذج الهبوط الفني أو ما يمكن استعارته من الفيزياء وتسميته بـ”السقوط الحر” في هاوية سحيقة أصبح من الصعب الخروج منها، بل الخروج منها يقتضي نضالا ثقافيا كبيرا ليس ضد ممتهني الفن ولكن ضد الجهات التي ترعى التفاهة وتمولها من المال العام وتدفع بها.
استرجاع الروح لمرجعيات المغاربة ضرورة تاريخية ووجودية.
انحدار مرجعيات المغاربة -4-
