Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

تأمُّلات في علاقة الشّكل بالمضمون

محمد فارس

غالبًا ما أقومُ بجولات عبر مَعْرض المذاهب الفلسفية، لأجدِّد العهدَ بها، ولأتبيَّن ما خفيَ عنّي فيها خلال زياراتي السّابقة لها؛ وهذه الأيام، نزلتُ ضيفًا على فيلسوف، كان له الفضلُ في بناءِ مذهب أسماه: [فلسفة البناء العُضوي]، وقد استوقفتْني في بنائِه هذا، فكرةُ [الشكل] أو [الصّورة]، ولستُ أودُّ ههُنا صياغةَ مقالة نقْدِية لهذا الاتّجاه، لكن اجتَزأتُ منه فكرة [الشّكل] بحيث يَرى [ألْفريد نُورْت وَايْتهِيد] أنّ حقيقة الشّيء ليست في المادّة التي بُنيَ منها، بلْ في صورتِه وهيْكَله وشكْله.. فالهرم مثلا، ليس هرمًا بصخوره، ولكن بشكله، بدليل أنّه يمْكن أن يُبْنى من ورقٍ مقوّى، أو من خشَب، أو من حديد، ومع ذلك يبقى هرمًا؛ إذن [وايْتهيد] يهتمّ ههُنا بطريقة التّركيب، لا بالمضمون الذي يملأ هذا التركيب..
لنتْرُك [وايْتهيِد] يسترسِل في واقعيتِه الممزوجة ببعض العناصر المثالية، ولنحْتفظ فقط (بشكلانيته) لنقيسَها على ما نعيشه اليوم، من أمور لا نلمسُ منها إلاّ الصّور، والأشكال، أمّا المضامين، فخَواء، وفراغ، وذلك هو الإشكال؛ لكنّ الذي لم يُجِبْني عنه [وايتهيد] هو: هل بإمكان هرَمٍ بُنيَ من وَرق أن يَصمد أمام صوْلة الدّهر، كما صمدَتِ الأهرامات المبنية من صخور، التي ما زالت قائمة وصامدة على مدى الدّهور؟ الاستفهام هنا استفهامٌ إثباتي يتضمّن جوابَه فيه.. وتعالَ الآن نتمعّن في بناءات وصروح نُعْنى بأشكالها وصُوَرها، ولا نهتمّ بمادّتِها ومضامينِها، وأهمّ هذه البناءات الديمقراطية كعقيدة، ومنهج، وسلوك، باعْتِبارها صرحًا ينبغي أن يَصمد أمام كلّ رياح التّشويه، أو الإبطال، أو التّأويل الخاطِئ، بل المضلّل أحيانًا.. ترى البناءَ من بعيد، فيبدو لكَ شامخًا بخطاباته، ودعاياتِه، وانتخاباته، واستحقاقاته، ومعازِله، ومنازِله، وبالجُملة يتوفّر الشّكلُ على كل المقوّمات الظاهِرية التي لا تَجعلُكَ تقُول غيْر ذلك، لكن..
لكنْ عندما تفحصُ المادّةَ المستعملة في البناء، والعناصر المكوّنة لهذا البناء، والمضامين التي تملأ دواخل البناء، تُصاب بالخيْبة، وتُدْرك أنّه مهدّد بالانهيار عند هبّة ريح خفيفة، فما بالُك بالرّياح العاصفة والرّعودِ القاصفة، وصوْلة الدّهر، وتقلّبات الأزمِنة، وتغيُّرات المناخ.. من ذلك تفْهم، لماذا حقوقُ الإنسان ما زالت تدْمي الفُؤاد، وتؤذي العاطفة، ولماذا حرّية التّعبير مافتِئَت تجْرَح المشاعر، وتشلّ الفِكر؛ ولماذا بقيَت الشّكارة هي المتحكّمة في النّزاهة وهي التي تحدِّد نتائج الانتخابات؛ ولماذا خيرات البلاد لا توزّعُ طبقًا لعدالةٍ اجتماعية؛ ولماذا أخفقَتِ المدرسة، وفشِلت الكلّية، وتدَنّى مستوى الجامعات ذوات البناءات الشّامخات؛ ولماذا مشْية الإدارة ما زالت سُلحْفائية؛ ولماذا الرّشوةُ بلغَت معدّلات وبائية؛ ولماذا الأسعارُ صارت جهنّمية وكأنّها استحالت إلى أداءات جِبائية تدفعُها الطبقات الاجتماعية ذات الأوضاع المتردّية؛ ولماذا تفاقَمَت الفوارقُ الطّبقية؛ ولماذا المجالسُ اكتظّت بأصحاب [الجلاّبية، والطاقية، وهم يسْتبطِنون الجهلَ والأمّية]؛ وبالجُملة، لماذا لم يتمّ إقرارُ أرستُقراطية المواهب، بدل أرستقراطية الانتماءات، والولاءات، والأنساب؛ لماذا تَرانا ندافع عن الأخطاء، أكثر من دفاعنا عن الصّواب؟ لأنّ كلّ البناءات، والمؤسّسات، والسياسات، والحكومات، والبرلمانات، كلّها صورٌ شكْلية بلا مضمون، بلا محتوى..
قد يقولُ أصحابُ الذّاتية، الذين يعيشون في الأريحية التي منَحتْهم نظّارةً وردية، إنّ هذا كلّه ضربٌ من المبالغة والسَّوْداوية؛ ونحن نقول لهؤلاء إنّ معيار الحقّ والباطل، إنّما هو معتركُ الحياة والعمل؛ فالـمُمارسة اليومية، والحوادثُ العَملية، هي وحْدَها التي تجعل “الكلمةَ” أو “العبارة” صادقةً أو باطلةً وإلاّ لصارَ الكلامُ كلّهُ شكليًا، وفارغًا، وشبْه ألفاظ؛ فهل البرلمان ذو البناء الشامخ كشَكْل يؤدّي دورَه كبرلمان الشعب؟ هل ما يُقال تحت قبّته يرقى إلى مستوى الخطاب الهادف؟ هل الّذين يشكّلون الحكومة، ويملؤُون مقاعِدَ البرلمان، هم فعلاً أهْل لهذه المناصب؟ هلِ الدّيمقراطية الزّائفة والشّكلية التي حَملتْ هؤلاء وأشباههم إلى كراسي المسؤولية هي حقّا وصدْقًا ديمقراطية؟ فهل الديمُقراطية الحقيقيةُ هي التي يكون شكْلُها مُبَشِّرًا ومضمونُها المعاشُ مُنَفِّرًا؟! إذن لتقدّم البلاد، لابدّ لنا من القطيعة مع كافّة الشّكليات، وكل الأشكال الـمُضلِّلة، وإلاّ..

Exit mobile version