Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

تاريخ الصدق

حضرت أول أمس الاثنين ندوة فكرية حول موضوع “الذاكرة بين المركز والهامش: التدوين وإشكاليات التاريخ” بالمكتبة الوطنية، ومن تنظيم المركز المستقل للأبحاث والمبادرات من أجل الحوار، فرع شمال إفريقيا والشرق الأوسط. كان لافتا انتباه المنظمين إلى آباء التاريخ في المغرب، حيث تم تكريم المؤرخ الكبير والعلامة إبراهيم حركات، أحد أبرز المؤرخين المغاربة الأحياء. أصر على الحضور رغم وضعه الصحي الذي لا يسمح. ومنعت الظروف الفيلسوف محمد سبيلا. شارك في الندوة باحثون ومهتمون. تناولت الندوة كتابة تاريخ المغرب القديم والفرص الضائعة في تاريخ المغرب والمغيبون في التاريخ الاجتماعي للمغرب والأسطورة أو التاريخ بطريقة أخرى والمركز وآليات تهميش النخب وإشكالية أماكن الذاكرة والتاريخ الآخر للمغرب، بمساهمة محمد لومة ولطفي بوشنتوف وإدريس هاني وصالح شكاك ومونى هاشم ومصطفى بوعزيز. تفاوتت الندوة من حيث قيمة التدخلات، لكن في العموم هي استفزاز لسؤال التاريخ في المغرب، ومن سيقوم بهذا الدور بعد رحيل الشيوخ، الذين قضى كثير منهم نحبه وآخرون لم يعودوا قادرين على الإنتاج؟ شخصيا استحضرت كتاب جاك ديريدا حول تاريخ الكذب، الذي حاول من خلاله الإمساك بشجرة أنساب “الكذب”، وهل يمكن التمييز بينه وبين الصدق، ناهيك عن تساؤله عن العوامل التاريخية والثقافية التي تساهم في بلورة الممارسات والأساليب والدوافع التي تتعلق بالكذب، متسائلا عن ماهية الكذب؟ وما هي طبيعة وما المقصود من فعل الكذب؟ وجزم بأنه يستحيل الكذب على الذات إلا في حالة اعتبارها بمثابة آخر. تناول هذا المفهوم بعلاقته بمفاهيم أخرى. عنا لي سؤال: لماذا لا نكتب تاريخ الصدق قبل الانطلاق في كتابة تاريخينا؟ يعتمد التاريخ الرواية والوثيقة. وهما مصدران قابلان للتلاعب. الحاضر شاهد كبير على الماضي وليس العكس. أنطلق من مسألة في غاية البساطة. أنا الرجل البسيط شاركت في بعض الأحداث، أو عايشت بعضها. في التاريخ مكتوبة كذبا. ولن يستطيع أحد تصحيحها. كتبت عن أشياء من هذا القبيل في أوقات سابقة. وهنا أتحدث عن فعل الكذب لما يكون مقصودا، وربما لا يوجد كذب بدون قصد سوى الكذب الأبيض، وحتى الالتباس يخرج عن الصدق وإن لم يكن كذبا. وبقدر ما توفرت لدى المؤرخ أو من يشبهه، أدوات جديدة وآليات للتحقيق والتدقيق كبيرة فإن الكذب طور أيضا أدواته وانتصر في معركة الإشاعة، التي هي عنوان للحقيقة الآن وأصبحت صناعة للتضليل اليوم وغدا، وهنا يستطيع التاريخ، بما هو انحدار لما مضى حسب هايدجر، أن يتحكم في المستقبل.إذا كنا غير قادرين على تفادي الكذب الممارس تجاه وقائع عليها شهود أحياء وقد نكون نحن أيضا شهودا عليها، فكيف يمكن أن نعرف حجم الصدق في الوقائع التي يفصلنا عنها زمن طويل؟ كيف يمكن تفادي المغالطات التي تنتشر اليوم بشكل فظيع والتي هي جزء من التاريخ؟ ستكون مهمة المؤرخ في المستقبل جد صعبة لأن تنقية الماضي، الذي هو حاضرنا نحن اليوم، لن تكون سهلة وأي غربال تم استعماله لن يمنع من تسرب كثيف للكذب. قد لا يكون لأبنائنا تاريخ ونحن شهود على كثافة المغالطة وسطوتها على الواقع.

Exit mobile version