Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

تاريخ الفساد

إدريس عدار
الفساد هو السلوك الأشد تخفيا. تطفو مظاهره على السطح لكن جوهره غارق في عمق البحر. يكاد الجميع يتحدث عن الفساد لكن لا أحد يستطيع الإمساك به. لكن من غير إرادة وجدنا مؤسسة تؤرخ للفساد في بلادنا رغم أن دورها غير ذلك. المجلس الأعلى للحسابات يهدف إلى مراقبة المالية العمومية، جباية وصرفا. تقتضي العملية ترتيب الجزاءات عن التفتيش. المجلس سنويا يُصدر تقارير دورية. لكنها تحولت إلى “روتين سنوي”.
تقارير تحتوي على العشرات من صنوف “نهب المال العام”. سرقات واختلالات وسوء تدبير. لا نرى عقوبات تناسب الأفعال.
كل سنة يرصد المجلس بالتفاصيل عمليات الانتهاك الصارخ للأمانة المعلقة في رقبة عشرات المسؤولين. اغتناء فاحش يراه من لا يتوفر على أدوات فاحصة. مباني سكنية فاخرة تصعد بسرعة البرق في ملكية موظفين لا يكفي راتبهم لسداد قروض البنك وتكاليف تعليم الأبناء. وثائق متوفرة باعتبارها دليلا وحجة على أن هذا المسؤول أو ذاك عاث فسادا في الأرض.
غياب الأثر العملي لتقارير المجلس يجعل منها مجرد مسودات لتاريخ الفساد. بدون شك ستعثر في مئات آلاف الأوراق الموجودة في ردهات مبنى المجلس الأعلى للحسابات ومؤسسات الأرشفة عن أرضية كبيرة إذا تولدت لديك رغبة في التأريخ للفساد في المغرب. يكفي أن تضع منهجا للعمل وتشرع في ذلك لتجد نفسك أمام كم هائل من قضايا الخروج عن القانون.
لم تنشأ هذه المؤسسة لهذا الغرض ولكن من أجل مراقبة المال العام ومواكبة تدبير المؤسسات العمومية والإدارات، وبما أن هذه الوظيفة أضحت ثانوية فلم يبق لنا من هذا الجهد سوى التاريخ.
كل هذا المجهود، الذي يقوم به المجلس الأعلى للحسابات، لم يؤد إلى تخليق الحياة العامة. في غياب الأثر العملي لكل هذه المجهودات ينبغي أن نطرح العديد من الأسئلة؟ كيف نستمر في العمل نفسه وهو لا يؤدي دوره؟ من يعرقل عمل هذه المؤسسة؟ لماذا تصدر التقارير سنويا وتتم مراكمتها كأننا نقوم بأرشفة الفساد في المغرب؟ لماذا كل هذا العناء؟ كم نصرف من الأموال العمومية مقابل مراقبة الأموال العمومية التي مع كل هذه التقارير تبقى سائبة؟
أي بلد يجد أن مؤسسة مكلفة بمحاربة الفساد يقف دورها عند كتابة التقارير، لابد أن يطرح السؤال: أين الخلل؟ لماذا لا تؤدي المؤسسات الدستورية وظيفتها؟
هناك في مكان ما خلل ما. هذا الخلل هو الذي حوّل مؤسسة كبيرة من محاربة الفساد إلى مجرد أداة تكتب تاريخه.
مرة كتبت عن “تاريخ الصدق” باعتباره مقدور عليه أكثر من “تاريخ الكذب” (في إشارة إلى كتاب جاك ديريدا). لأن الصدق عملة نادرة وبالتالي يسهل كتابة تاريخه وحينها سيتعرى “الكذب”. وتنويعا على ذلك يمكن على هامش ما ينشره المجلس الأعلى للحسابات من تقارير كتابة “تاريخ الشفافية” أو “تاريخ محاربة الفساد”، فحينها سيتعرى الفساد، وتتعرى المؤسسة التي حادت عن وظيفتها وتعود إلى جادة الصواب.

Exit mobile version