Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

حادثة زكريَا أشدُّ إيلامًا ومأساوية من حادثة ريان

محمد فارس

كان [طه حسين] قد نال شهادة الدكتوراه الثانية له عند دراسته لمقدمة [ابن خلدون]، وكان ذلك في [جامعة السوربون] في [فرنسا]، وقال [طه حسين] وقتَها للفرنسيين إن [ابن خلدون] سبق [ماركس] في علم التاريخ، وسبق [أوغوسْت كون] في علم الاجتماع، وأثبت [طه حسين] ذلك بالدليل الذي لا يقبل الجدل، فنال دكتوراه عن جدارة واستحقاق.. و[ابن خلدون] هو صاحب القَولة التاريخية الشهيرة وهي: [الظلم منْذر بخراب العُمران]. وقد ثبتَ صِدْقُ هذه المقولة في بلده الأصلي [تونس]، يوم صفعَت شرطية شابا تونسيًا وصادرتْ عربته لأنّه كان بائعًا متجوّلاً، ففاض الكأسُ وتحوّل إلى غضب شعبي عارم، وانطلقت عواصفُ ما سُمِّي بِـ[الربيع العربي]، فسقطت أنظمة في [تونس]، ثم [مصر]، ثم [ليبيا] وما زالت الفتنة قائمة في هذه البلدان إلى يومنا هذا، وما كان أحد يتوقّع ولوْ لِوَهلة ما حدث بسبب ظلم حلّ بشاب تونسي يدعى [البوعْزيزي]، فصار اسمه بعدما أحْرق جسدَه رمزًا للثورة ولرفْض [الحگْرة].
قُلنا مرارًا في مقالات سابقة، إن التاريخ لا يعيدُ نفسه، ولكنه فقط يعيد أحداثه، وما حدث في [تونس] للشاب [البوعزيزي] حدث مثْلُه في [المغرب] للشاب [زكرِيا] بسبب ظلمٍ لحقه، ولا أحدَ استمع لشكواه أو أعادَ إليه حقّه المهضوم، فأَقدَم هو كذلك على إحراق جسدِه أمام الكاميرا بعدما أعطى تقريرًا مفصّلا نقلتهُ جلّ القنوات الفضائية بالصّوت والصورة، ولكن دعْنا أولا نعرف ما هو الظلم، وما هو حكم الله في الظَّلَمة: الظلمُ في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه، وفي الشّريعة هو التعدي عن الحقّ إلى الباطل، وهو الجوْرُ، وقيل التّصرف في مِلك الغير، ومُجاوزة الحقّ كما يقول [الجرجاني] في [تعريفاته]؛ ويقول الله عزّ وجلّ في كتابه الحكيم بلَهْجة لنبيِّه الكريم: [لا تُخاطِبني في الذين ظلَموا، إنّهم مُغْرقون] صدق الله العظيم، مما يبيِّن خطورة الظلم ومآلاتِه في أمّة تسْكت عن الظلم، وتتساهل مع الظّالمين.. لقد أحرقَ [زكريا] جسده، ومات، ورحَل إلى جوارِ ربّه، لكنّ السّؤال هو: [هل تَنْجو الجرَّة كلّ مرّة؟]؛ الجواب: كلاَّ، وألْفُ كلاّ!
لقد شهِدت بلادُنا حادِثَتيْن مَأْساويتين في أقلّ من شهرين، وهما حادثة سقوط الطفل [ريان] في جبّ، وحادثة [زكريا] الذي أحرق جسده رفضًا للظلم و[الحکْرة]، لكن لو دقّقت النظر جيّدا في الحادثتيْن، لألفيْت بكل سهولة أنّ حادثة [زكريا] كانت أشدّ مأساوية وأشدّ إيلامًا؛ فإذا كانت حادثةُ [ريان] الأصلُ فيها الأقدار، فإنّ حادثة [زكريا] كان الأصلُ فيها الأشرار، وإذا كانت مأساة [ريان] قد جعلت العالم بأسره يتعاطفُ معنا، فإنّ مأساة [زكريا] قد طرحت أسئلة حول حقوق الإنسان ببلادنا، وكشفتِ النِّقاب عن واقعٍ مرّ يعيشُه المواطن في صمت، وفي صبْر حتى ضاق مِن صبْره الصَّبرُ.. لكن من هم هؤلاء الأشرار الذين ملؤُوا البلدَ بمظالم وأصابوه بشتى الأضرار؟ ما زِلْنا نتذكَّر تلك الصّورة الفاضحة لصاحب [البوادَر] الذي ألقى رجل تعليم أرضًا خلال احتجاج الرافضين للتعاقُد؛ هؤلاء أصحاب [البوادَر] همُ الذين دفعوا [زكريا] للّجوء إلى المخفر، ظنّا منه أنّه سيَلقى اهتمامًا، لكنّه وقَع على أشرار، ولم يسمعه أحدٌ منهم..
قال جلالة الملك [الحسن الثاني] طيّب الله ثراه في إحدى خطبه في أواسط التسعينيات: [اِحتَرمُوا المواطِن، واستمعوا له، فحتى وإنْ كان أُمّيًا، فإن له أبناء مثقّفين ومتعلّمين]؛ وخلال إحدى خُطب افتتاح البرلمان، قال جلالة الملك [محمد السادس] نصره الله بلهجة: [اِتّقُوا الله في هذه الأُمّة!].. نحن نَعرف كيف عومِلَ [زكريا] في المخفر، وقد عشْنا ظروفًا مماثلة مع هؤلاء، ونعلم كيف يتصرفون، وكيف يستأسِدون، وكيف يتنمَّرون على المواطن المغبون، وعلى المظلوم ذي شجُون؛ كان من المفروض تشتيتُ تلك الإدارة بانتقالات عشوائية، وإعفاء من تعاملوا مع [زكريا] من الوظيفة، وتقديم رئيسهم المباشر لاستقالتِه فورًا كما يحدُث عادةً في الدّول الديمقراطية، بدل فتْح تحقيق، ثم (سين) و(جيم) ثم (مُتْ يا حمار)؛ قال [ابنُ تمام] وهو شاعر الحِكْمة: [المجْدُ للسّيفِ لا المجْدُ للقلمِ * في حدِّهِ الحدُّ بيْن الجدِّ واللّعبِ]، هذا هو الحلّ العادل مع هؤلاء الأشرار الذين عاثُوا فسادًا ومظالمَ في البلاد والذين يؤَمِّنون الحمايةَ لأصحاب [البوادر] في الأسواق، وفي المحطّات، وفي شتى المرافق دون حسيبٍ أو رقيب؛ فإحراق [زكريا] لجسدِه، هي حادثةٌ لها دلالتُها، وكان من المفروض دراسةُ ما قاله أمام الكاميرا بكل ثقة وهدوء، فكلمتُه كانت تاريخية وسيذكُرها التاريخُ مع تعليق المؤرّخين علَيها.. [زكريا] قوّضَ خِيامه ورحل، وتركَ الدّنيا وراءه لمَن يلهث وراء الدّنيا وأوساخِها وهي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تُساوي جناحَ بعُوضة]؛ [زكريا] رفض الذّل، والإهانة، والظّلم؛ والظّلمُ ظُلُماتُ يوم القيامة..

Exit mobile version