محمد فارس
عقيدتي التي انتَهيْت إليها بعد شيء من التفكير، وهي عقيدة ربّما جاءت مخالفة لِـما هو شائع في الأحاديث الجارية الآن، عقيدتي هي أنّه إذا كان من حقِّ الأحزاب السياسية إنْ كانت حقّا أحزابًا، أن تختلف في الأهداف وأن تختلف في المبادئ، فلستُ أظنُّ أنّ من حقّها الاختلافَ حوْل الوسائل الموصِلة من هذه المبادئ إلى تلك الأهداف، لأن هذا الحقّ متروك، أو يجب أن يكون متروكًا لأصحاب العِلم، والخبرة، والمعرفة، وعلى سبيل التّشبيه، أقول إنّ المسافرَ مثلاً من حقّه أن يحدِّدَ الجهةَ التي يريد السّفَر إليها، كأنْ يقول (مثلاً) وهو في [الرباط]: أُريدُ السّفر إلى [طنجة] صادرًا ذلك عن رغبة معيّنة يعرفها هو، فهو وحْده الذي يقرّر لنفسه لماذا أراد السّفر؟ ثمّ ما عليه بعد ذلك إلاّ أن يختارَ إحدى الوسائل الـمُتاحة أمامه التي يستطيع بها أن يحقّقَ ما أراد، وهي وسائلُ لم يكُن هو الذي أعدَّها أو صنعها، بل أعدّها الخبراءُ والعلماءُ والمختصّون أكانت قطارًا، أو حافلةً، أو سيارةً..
وهكذا، ترى أن الرّغبة في السفر، كانت رغبتَه، والرغبةُ هنا هي ما يُقابِل [المبدأ]، وأمّا الوسيلة التي تنْقُله من الرّغبة إلى تحقيقها، فقدِ اضطلع بها أصحابُ المعرفة العِلمية والمهارة التّطبيقية، كلّ في مجاله الخاص.. والحكومةُ وكذلك الأحزابُ والبرلمانُ بقبّتيْه، لا يختلفون عن هذا، أو كان ينبغي لهم ألا يختلفوا، فإذا اتّفقْنا على أنّ وسائل تحقيق المبادئ والأهداف أمورٌ متروكة للخبراء والعلماء، تبيّـنَ لنا كيف أنّ اليميـنَ واليسارَ والوسطَ تلتقي كلُّها عند وسائل التّنفيذ، أعني أنّها جميعًا تنتهي أو لابدّ لها، عند أداةٍ مشتركة هي أداةُ العلم، بحثا وتطبيقًا.. إنّ العلمَ يزحف بوسائله زحفًا سريعًا على جوانب الحياة التي كانت متروكة قبل ذلك [للرّأي]، وأينما تصحُّ سيادةُ العِلم وما يقرّره، لا يكون من حقِّنا أن نجعله نهبًا للمناقشة واختلاف الآراء، فإذا كان العلمُ قد خطا خطواته في حلِّ كثير من مُشكلات البرد، والظلام، والأوبئة، والمسافات، فكيف لا نسمع قراراته في كلّ علاقة اجتماعية من تربية إلى سياسة واقتصاد وفلاحة وقسْ على ذلك؟
لماذا تُتْركُ هذه الجوانبُ الحيويةُ الخطيرة رهينةَ [آراء] الجهَلة والعوام، تدور بها موائدُ اللجان، ثم يكون الحكْم الحاسمُ فيها لعدد أصوات الجهلة في البرلمان؟ هل تؤخَذ الأصواتُ بعد المناقشات في الطّرق التي يَتمّ بها تنقيةُ ماء الشّرب والتّطعيم ضدّ الأمراض؟ كلاّ! إنّما تكونُ الأصواتُ ضرورة ديمقراطية عند تحديد الرّغبات، وتعيين الأهداف فقط، أما كيف تتحقّق الرّغبةُ والوصولُ إلى الهدف، فأمرُ ذلك متروكٌ للباحثين، والعلماء.. ها هنا يكمُن مفتاحُ الرّؤية الواضحة، وأعني به التّفرقة بين [الرّغبة] العامة من جهة، و[سُلطة العِلم] في تحقيق تلك الرّغبة من جهةٍ أخرى.. قد يكون النّوابُ أو الوزراءُ مختلفين في (رغباتهم)، في (مبادئِهم)، في (أهدافهم)، لكنّهم لا ينبغي لهم أن يختلفوا على أن يكونَ للعلم سلطة التّنفيذ، لكنْ للأسف الشّديد، فنحن في [المغرب] حيث صارت السّياسة مسرحًا مفتوحًا للجهلاء ولكل من هبّ ودبّ، فليس للعلم قيمة تذكَر، وماذا تنتظر من حكومة يشكِّلها الباعةُ، والسماسِرة، والتّجار؟ فلا خير فيها، ولا مستقبل منشود يُرْجى من ورائها، فأنتَ ترى أنّها تسلُك فينا مسْلَك التّجار، وكل ما تستطيعُه هو الزّيادات المهْوِلة في الأسعار، والأمّة تنحو نحو الدَّمار..
هؤلاء لا علاقةَ لهم بالتّسيير أو التّدبير؛ هؤلاء تجّار يجيدون البيعَ والشراء والاحتكار؛ يساندهم برلمانٌ يعجّ بأصحاب المحلّات، والدكاكين، والعمارات، لا يعْلَمون قيمةَ العِلم ودورَ المعارف، كما لا يعْرفون حتى معنى الدّيمقراطية، ولا ما هو دوْرُ البرلمان في كلِّ البلدان.. عن أيّة رغبة تحدّثُهم يا هذا، وعن أيّة مبادئَ وعن أيّة أهداف تحكي لهم وقد عشّشَ في عقولهم الجهلُ وسكَنَ في صدورهم النّفاقُ، ونفثَتْ أفواهُهم الكذبَ، به تَمرّسوا، وعلى أكوامِه جثَموا، جيوبُهم فيها قلوبُهم.. مثلُ هذه المقالات لا يقرؤُونها، وحتى إذا قرؤُوها فإنّهم لا يفْهمونَها لشدّة جهْلهِم، وتفشّي أُمّيتهِم؛ هؤلاء مجرّد عوام، والعوامُ إذا اجتمعوا أفسدوا كما قال الإمام [مالك].. فماذا سأقول لهم؟ أقولُ لهم:
أَروني بيْنَكم رجُلاً * ركينًا واضِح الحسَبِ!
أَروني نصْفَ مثقّفٍ * أَروني رُبْعَ مُحْتَسِبِ!
أَروني ناديًا حَفلاً * بأهل الفضل والأدب!
ماذا في برلمانكم * منَ العِلمِ والكتبِ؟
ماذا في تلفزتِكم * مِنَ التّبْيان والخطَبِ؟
وماذا في صحائفِكم * سوى التّمويه والكذبِ؟
حكومة تَجهل المبدأ المفروض فتعجز عن تحقيق الهدف المطلوب
