مصطفى المنوزي*
بين سردية التقية البراغماتية وجذب التأثير الخارجي
( من وحي مقالة للحسن آيت لفقيه حول المحاججة واللمع )
يشهد الحقل الإسلامي المغربي تداخلاً ديناميكيًا بين البُعدين السياسي والدعوي، حيث تحاول الحركات الإسلامية، وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية، تحقيق توازن معقد بين الخطاب الديني والممارسة السياسية. هذا التداخل لا يعكس فقط استراتيجيات تكييفية داخلية، بل أيضًا تفاعلات مع السياقات الإقليمية والدولية، خاصةً مع صعود نماذج إسلامية سياسية مؤثرة مثل النموذج التركي.
في هذا السياق، يبرز مفهوم “التقية البراغماتية” كأداة مركزية تسمح لهذه الحركات بتقديم خطابات متعددة الوجوه، تارةً دينية أخلاقية، وتارةً سياسية مرنة، بما يخدم مصالحها التنظيمية ويُكسبها شرعية محلية ودولية. كما أن استخدام “خطاب المحاججة” و”اللمع الأيديولوجي” يُظهر قدرة هذه الحركات على تبرير مواقفها السياسية عبر مرجعيات دينية، مع تفادي الاصطدام المباشر مع الأنظمة أو الرأي العام. وإلى جانب ذلك، فإن العلاقة بين التيارات الإسلامية المغربية (الإخوانية والوهابية) تكشف عن تحالفات تكتيكية تهدف إلى تعزيز النفوذ، سواء عبر التقارب مع الخليج أو محاكاة النموذج التركي. كل هذه العوامل تُشكّل مشهدًا حركيًا معقدًا، يطرح أسئلة جوهرية حول مدى استقلالية هذه الحركات، وطبيعة توظيفها للدين في الصراع السياسي، وتأثير التحالفات الخارجية على مسارها.
من خلال هذا المقال ، سنحاول تفكيك هذه الإشكاليات عبر تحليل:
1. آليات لتكامل بين السياسي والدعوي في الخطاب الإسلامي المغربي.
2. دور “التقية” و”اللمع” في تبرير الممارسات السياسية.
3. تأثير النموذج التركي والخارج الإقليمي في تشكيل الاستراتيجيات الحركية.
4. مستقبل هذه الحركات بين التكيف والاصطدام مع الدولة والمجتمع.
وبهذا، نهدف إلى فهم كيف تُعيد الحركات الإسلامية المغربية تشكيل نفسها في ظل تناقضات الواقع السياسي، وتحديات الهوية بين المحلي والعالمي.
1. مدخل: التكامل بين السياسي والدعوي في الحقل الإسلامي المغربي
في الحقل الإسلامي المغربي، نلاحظ تداخلًا معقدًا بين البُعدين السياسي والدعوي، ليس فقط في مؤسسات الحزب الإسلامي الرئيس “العدالة والتنمية”، بل في جل الحركات الإسلامية التي تسعى لتحقيق توازن بين التوجهات المحلية والإقليمية والدولية. إن هذه العلاقة بين البُعدين قد تطورت عبر استراتيجية تكييف مستمر، استنادًا إلى مبدأ “التقية السياسية” التي تتيح تقديم طروحات دعوية باعتبارها شريعة سياسية معبرة عن المصالح الحركية والتنظيمية. ويُعد حزب العدالة والتنمية خير تجسيد لهذا التداخل، حيث يسعى، منذ انطلاقته، إلى الجمع بين الخطاب الدعوي القائم على المبادئ الدينية والإسلامية، وبين خطاب سياسي يروم الوصول إلى مراكز القرار، وبناء تحالفات سياسية فاعلة داخليًا وخارجيًا. إلا أن هذا السعي لم يكن بريئًا من عمليات “التكييف” في خطاباته، ولا سيما من خلال تبني خطابات متناقضة في الظاهر ولكنها متكاملة في الباطن، مما يعكس إيديولوجية “التقية البراغماتية” التي تعكس قدرتهم على التكيف مع متطلبات السياقات المختلفة.
2. خطاب المحاججة واللمع في المسلكيات الحركية
تسعى الحركات الإسلامية المغربية، في جوهر خطابها السياسي، إلى موازنة نوع من التبرير الدعوي للأفعال السياسية. هذه المحاججة، التي هي في الأساس وسيلة دفاعية، تُستخدم لتأكيد شرعية التحركات السياسية داخل المغرب، وكذا في علاقاتها الخارجية. يتسم هذا الخطاب بالقدرة على التقاط المتغيرات المحلية والدولية، عبر استراتيجيات مرنة تسمح بالتحفظ في القضايا المرتبطة بالسياسة الداخلية، وفي الوقت ذاته، تمكين المواقف الدعوية من خلال تفعيل مفاهيم مثل “العدالة”، “الاستقامة”، و”الطهرانية”، التي تكون ظاهريًا أخلاقية ودينية، لكنها متماهية مع الأهداف السياسية. وإن ما يعزز هذا الخطاب هو وجود “اللمع” في المسلكيات الحركية، بمعنى “التحايل الأيديولوجي” على الواقع، الذي يسمح للفاعلين السياسيين بتوظيف الأخلاقيات الدينية لتبرير المواقف السياسية التي قد تكون مثيرة للجدل أو غير شعبية. إن اللمع لا يرتبط فقط بكفاءة الخطاب الدعوي في تجنب المواجهات المباشرة، بل هو أسلوب يتيح للمجتمع متابعة القرارات دون أن تظهر الانعكاسات السلبية لهذه القرارات على التصور العام عن المبادئ الأساسية للحركة.
3. التقية بين الوهابية والإخوانية: أداة سياسية أم اعتقادية؟
في هذه الدائرة، تبرز فرضية مثيرة للاهتمام: هل يمكن اعتبار بعض المحسوبين على التيار الوهابي في المغرب يزاوجون بين ادعاء الانتماء الإخواني لتبييض علاقاتهم بالخارج الإخواني، أو بالعكس، بعض الحركات الإخوانية تلجأ إلى تبني الخطاب السلفي الوهابي لتدعيم مواقفها السياسية وتحقيق نوع من التماهي مع تيارات محافظية معينة؟ هذه الاستراتيجية لا تقتصر على تكييف الخطاب فقط، بل هي تكتيك يقود إلى تقوية الروابط مع الأطراف الخارجية، سواء كانت الخليجية أو التركية، مما يعكس ضرورة تقوية النفوذ الدولي في مواجهة “التهديدات” السياسية الداخلية أو في سياق الضغوط الخارجية.
إن هذا التلاعب في تبني الخطاب يعكس بوضوح تحولًا مهمًا في الممارسة السياسية للحركات الإسلامية، حيث لا يعد الانتقال بين الخطابات مجرد محاولة لكسب القبول الداخلي، بل هو كذلك محاولة لفتح قنوات اتصال مع دول تمتلك نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا. هذا التحول لم يكن دون مرجعية، بل استلهم إلى حد كبير النموذج التركي في العلاقات الدولية، الذي حقق توازنًا بين التأصيل الدعوي وممارسة السلطة السياسية، معتمدًا في ذلك على مقولات مثل “العدالة والتنمية” كنموذج للنجاح السياسي والإسلامي.
4. استلهام النموذج التركي: من العلاقات الخارجية إلى الهيمنة الداخلية
من بين أهم محطات هذا التداخل هو استلهام النموذج التركي، خاصة بعد صعود حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب أردوغان. لقد نجح هذا النموذج في التوفيق بين الإسلام السياسي وأدوات الدولة الحديثة، وأصبح مرجعًا يُحتذى به بالنسبة للحركات الإسلامية التي تسعى إلى بناء مشروعية داخلية من جهة، مع السعي للحصول على دعم خارجي قوي من جهة أخرى.
في السياق المغربي، فإن محاكاة النموذج التركي قد أفرز خطابًا مشتركًا بين القوى الإخوانية والوهابية، حيث انطلقت الحركات الإسلامية من التفاعل مع التحديات الداخلية لتوسيع دائرة التعاون مع الدول المؤثرة في المنطقة. لكن هذا التعاون كان محكومًا بحسابات “التقية البراغماتية”، حيث تُقدِّم هذه الحركات نفسها كحلقة وصل بين الأطراف المختلفة، بما فيها الدول الخليجية والإخوانية، في سعي دائم لتحصيل الدعم والتعاطف السياسي والمالي.
5. نحو تفكيك الحركية المتصارعة
بناء على ذلك، يمكن القول إن الحركية الإسلامية في المغرب، من خلال خطاب المحاججة الذي يجمع بين الدعوي والسياسي، قد أوجدت نموذجًا متشابكًا ومعقدًا، لكنه يعكس في الوقت نفسه محاولات دائمة للتكييف مع المتغيرات المحلية والدولية. هذه الحركية، التي لا تزال تعيش على وقع “التقية البراغماتية”، تتقاطع مع الواقع السياسي والاجتماعي بطريقة تتيح لها التأقلم مع التحولات العميقة في العلاقات الخارجية، دون أن تفقد صورتها الدينية والدعوية، مما يجعلها أحد أهم الفاعلين في المشهد السياسي المغربي، ولكن ليس دون محاذير تتعلق بالاستقلالية والإيديولوجيا.
6 . العقل الأمني الدولتي بين المراقبة والتسامح النسبي
في خضم هذا التداخل المعقّد بين السياسي والدعوي، يبرز دور العقل الأمني الدولتي المغربي كمُراقب حذر، يتابع تحركات الحركات الإسلامية بتأنيبٍ تأديبي خفيف، دون انزلاق إلى سياسة الردع العميق، طالما أن هذه الحركات لا تشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار النظام أو السلم الاجتماعي. فالدولة تتعامل بمنطق “الاحتواء الناعم”، يسمح لها بضبط التوازنات دون تصعيد قد يُنتج ردود أفعال غير محسوبة.
لكن هذا التسامح النسبي لا يعني غيابَ الحساب الدقيق، خاصةً عندما تتحول الخطابات الدعوية إلى تعمير الشارع بقضايا الأمة العربية والإسلامية (كالقضية الفلسطينية أو الصراعات الإقليمية)، حيث تُدرك الدولة أن تحريك المشاعر الدينية قد يتحول إلى سلاح ذي حدين: فمن ناحية، يُعزز شرعية الخطاب الإسلامي، ومن ناحية أخرى، قد يُشكل ضغطًا على السياسات الرسمية.
وهنا تكمن المفارقة الأمنية: فبينما تُظهر الدولة مرونةً في التعامل مع الخطاب الدعوي طالما بقي في الإطار “المسموح به”، فإنها تظل مستعدةً لفرض الحدود الحمراء حالما تقترب هذه الحركات من خطاب التهديد المباشر للنظام أو الوحدة الاجتماعية. وبذلك، يظل المشهد الإسلامي المغربي خاضعًا لمعادلة دقيقة بين القبول المشروط والمراقبة المستمرة، في لعبةٍ لا تخلو من توترٍ صامت، لكنها تحافظ – حتى الآن – على هشاشة التوازنات القائمة.
*منسق دينامية ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية