محمد فارس
[حذيفة بن اليمان] رجل جاء إلى الحياة مزوّدًا بطبيعة فريدة تتّسم ببُغض النفاق وكراهية المنافقين، وبالقُدرة الخارقة على اكتشاف النفاق في مكامنه البعيدة؛ لقد نَمت مَوْهبتُه أعظم النماء، وتخصّص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة، ويبْلو كُنْهَ الأعماق المستترة، والدّخائل المخبوءة في غير عناء.. لقد بلغ من ذلك أن أمير المؤمنين [عمر بن الخطاب]، وهو الملهم الفطن، كان يستدِل برأي [حذيفة]، وببَصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.. ماذا كان سيَكون مصيرُ بعض الوزراء، وبعض النواب، وبعض زعماء الأحزاب، لو كان [حُذيْفة] موجودًا بيننا اليوم، يقرأ الوجوه، ويكتشف الدخائِل، ويجْلو السرائر، ويشير إلى المنافقين الموجودين بيْننا في الحكومة، وفي المؤسسات، وسائر القطاعات؟
عيَّنه [عمرُ بن الخطاب] واليًا على أهل [المدائن]، فخرج سكّانها أفواجًا لاستقبال واليهِم الجديد، خَرجوا لِـما سمِعوا عنه من وَرع وتقوى، وسمِعوا عن بلائه في فتوحات [العراق]؛ وإذْ هم يَنتظرون موكبهُ الفخم، إذا بِهم يبْصِرون أمامهم رجلاً مُضيئًا، يركب حمارًا، وقد أسْدل الرّجل ساقيْه، وأمسكَ بِكلْتا يديْه رغيفًا ومِلحًا، وهو يمْضَغ طعامه، وحين توسّط جمعَهم، وعَرفوا أنه [حذيْفة] الوالي الذي ينتظرونه، كاد صوابُهم يطير، ولكن، فيمَ العجَبْ! الحقّ أنّهم معْذورون؛ فما عهِدت بلاد [فارس] ولا قبل [فارس] وُلاةً من هذا الطِّراز الجليل.. سار [حذيفة بن اليمان] والناسُ محتشدون حوله، وحين رآهم يحدِّقون فيه كأنّهم ينتظرون منه تصريحًا أو حديثًا، ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال: [إياكم ومواقِف الفِتَـن]، قالوا: [وما مواقِفُ الفِتَـن يا أبا عبد الله؟]، قال: [أبوابُ الأمراء؛ يدخل أحدكم على الأمير أو الوالي، فيصدّقه بالكذب، ويمْتَدِحه بما ليس فيه]..
لقد عكف [حذيفة] رضي الله عنه، على دراسة الشّر والأشرار، والنفاق والمنافقين؛ فنجده يقول: [كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وكنتُ أسألُه عن الشّر مخافة أن يُدْركني].. يقول رضي الله عنه: [إن الله تعالى بعث (محمّدًا)، فدعا الناس من الضّلالة إلى الهدى، ومن الكُفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب، فحيا بالحقّ مَن كان ميّتا، ومات بالباطل من كان حيّا، ثم ذَهبت النبوة، وجاءت الخلافة، ثم يكون مُلْكا عضُوضًا، فمِنَ الناس من يُنكر بقلبه ويدِه، ولسانه، أولئك استجابوا للحق؛ ومنهم من يُنكِر بقلبه ولسانه، كافّا يدَه، فهذا ترك شُعْبةً من الحق؛ ومنهم من يُنكِر بقلبه، كافّا يدَه ولسانَه، فهذا ترك شعْبتَين من الحق؛ ومنهم من لا يُنكر بقلبه، ولا بيده، ولا بلسانِه، فذلك ميِّتُ الأحياء.]..
يتحدث [حذيفة بن اليمان] عن القلوب، وعن حياة الهدى والضلال، فيقول: [القلوب أربعة: قلب أَغْلَفُ، فذلك قلب الكافر؛ وقلب مصفّح، فذلك قلبُ المنافق؛ وقلب أَجرد، فيه سِرج يزهر، فذلك قلب المؤمن؛ وقلب فيه نِفاق وإيمان، فمثلُ الإيمان كمثل شجرة يُمِدُّها ماء طيّب، ومثل النّفاق كمثل القُرحَة يمدُّها قيحٌ ودَم: فأيّهما غلب، غلب].. وحسْبُنا أن نعلم أنه كان ثالث ثلاثة، أو خامس خمسة، كانوا أصحاب السَّبق العظيم في فتوح [العِراق] جميعها، وفي [همذان]، و[الريّ]، و[الديْنوَر] تمّ الفتحُ على يدِه.. في معركة [نهاونْد]، التقى الجيشان، ونشب قتال مرير، وسقط قائِدُ المسلمين شهيدًا؛ سقط [النُّعمانُ بن مقرن]، وقبل أن تهْوي الرايةُ إلى الأرض، كان القائدُ الجديدُ قد تَسلّمها بِيَمينِه، ولم يكن هذا القائدُ سوى [حذيْفة بن اليمان]، حمل الراية من فوْرِه، وأوصى بألاّ يُذاعَ موتُ [النّعمان] حتى تنْجلي المعركة؛ وانتهى القتالُ بهزيمةٍ ساحقة للفُرس.. هذا العبْقريُّ في حكمتِه، والعَبْقري في فدائيتِه.. كان [حذيفة بن اليمان] هو من خطَّطَ لبناء [الكوفة]، وما كاد المسلمون ينتقلون إليها حتى شُفيَ سَقيمُهُم، وقَوِيَ ضعيفُهم، ونَبضت بالعافية عُروقهُم..
وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين، دعِيَ لِلقاء الله عزّ وجل، وإذ هو يتهيَّأُ للرّحلة الأخيرة، دخل عليه بعضُ أصدقائه، فسألهم: [أجئْتُم معكم بِأكفان؟] قالوا: [نعم]؛ قال: [أَرُونيها]، فلمّا رآها وجَدها جديدة، فارهة، فَارْتسَمتْ على شفتيْه آخرُ ابتسامة ساخِرة، وقال: [ما هذا لي بكفَن، إنّما يَكْفيني لفّافتان بيضاوان ليس معهما قميص، وتَمْتَمَ بكلمات ألقى الجالسون أسماعَهم إليها فَسمِعوها: [مرحبًا بالموت؛ حبيبٌ جاءَ على شوْق؛ لا أَفْلَح من ندِم]، وصعدت إلى الله روح من أعْظم أرواح البشر، ومن أكثرها ورَعًا وتَقْوى ورحم الله [حذَيْفة بن اليمان]!
حُذَيفة بن اليمان عَدوُّ النِّفاق والـمُنافقين
