لا يمكن تعديل القوانين إلا برؤية واضحة، وعندما يطالب جلالة الملك محمد السادس بتعديل مدونة الأسرة فإن الرؤية واضحة كالمحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا مغرض أو متلبس بالإصلاح أو صاحب أجندة، لكن جلالة الملك ومن خلال الرسالة، التي وجهها إلى رئيس الحكومة، أوضح أن إمارة المؤمنين ضامن للخط العام وللعناوين الكبرى للإصلاح، لكن الإنجاز لن يكون إلا بطريقة التشاور والاختيار وعبر المؤسسات المعنية بالأسرة والحقوق ضمانا للفعالية والشفافية بل والجدة في الطرح، لأن تعديل المدونة هو استجابة للتحولات التي يعرفها المجتمع، لأن القوانين هي إجابة عن حاجات المجتمع.
وحرصت الرسالة الملكية على إسناد الإشراف العملي على إعداد هذا الإصلاح الهام، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع.
وحتى لا تكون المؤسسات مهيمنة على هذا الإصلاح فقد أعطى الأوامر أن تشرك بشكل وثيق في هذا الإصلاح الهيئات الأخرى المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين.
اللجنة بعدما تنجز عملها ترفع مقترحاتها المنبثقة عن التعديلات إلى جلالة الملك أمير المؤمنين، والضامن لحقوق وحريات المواطنين، في أجل أقصاه ستة أشهر، وذلك قبل إعداد الحكومة لمشروع قانون في هذا الشأن، وعرضه على مصادقة البرلمان.
الرسائل الملكية بما خطاب تأسيسي لا تترك للكلمات أن تصدر بشكل عفوي ولكنها مضبوطة. فأولا أصرت على أن المجلس العلمي الأعلى هو أول مؤسسة مشاركة في الإنجاز. وأصرت الرسالة على هذه الصفة “جلالة الملك أمير المؤمنين”. هناك جمع واضح بين الثابت والمتحول بل التركيز على “الثابت المتحول”. إمارة المؤمنين اجتهاد متواصل في الزمان والمكان وعنوان للفكر المتحرك.
فعندما تحدث وزير على أن تعديل مدونة الأسرة ينبغي أن يتم في ظل الثوابت. شن عليه معارضوه هجوما. وهم محقون في القول يتعويم مفهوم الثوابت، لكن سقطوا في تعويم المتحرك أو المتحول، فالحديث عن الأسرة أو أي مفهوم آخر في ظل قاعدة “الثابت والمتحول” ستؤدي إلى نزاع ناتج عن سوء فهم للحركة عموما ولحركة التاريخ خصوصا، والحل هو الحديث عنه في ظل قاعدة “الثابت المتحول”، كما قلنا سابقا، في هذا الموقع.
سوء الفهم الكبير هذا هو الضريبة التي نؤديها نتيجة هيمنة فكرة الثبات في الجوهر على حركة الفكر في العالم الإسلامي، بينما تم تهميش القائل بالحركة في جوهر الأشياء، وهي تعني قبل الفكر وفي عالم المادة، أن الأشياء بقدر ما تعرف تحولات في الشكل والكم وفي المكان هي في حركة ذاتية مستمرة، وهذه العملية تنطبق على الفكر حيث كل جواهر الأفكار، التي نعتقد أنها ثابتة أو نريدها كذلك، هي في جوهرها تتحرك ذاتيا.
فالمؤمنون بالثبات متكلسون على أفكار هي في حقيقتها لا يمكن أن تكون ثابتة، بمعنى أنهم يعيشون على حال الفكرة في الزمن، أي لما كانت على وضعها في الماضي، وهي لم تبق كذلك لأن جوهرها تغير، والمؤمنون بالتحول لا يرون من القضية سوى قشورها التي تبدلت ويغيب عنهم جوهرها الذي هو في حركة دائمة ودائبة.
هؤلاء وهؤلاء لا ينظرون إلى أعظم عبارة في القرآن الكريم “كل يوم هو في شان”.
نعتقد أن قضية مدونة الأسرة لا يمكن أن تخضع لتقاطبات من هذا النوع، فهي ليست من المواضيع التي يمكن أن ينخرط فيها “الذباب الالكتروني” أو يتجرأ عليها المؤثرون. هي قضية معرفة لا يمكن اختراقها بالإنشاء والتلفظ. الأسرة بناء وهي لا تنفك عن رؤية شاملة للمجتمع. وجلالة الملك أمير المؤمنين كما تبين الرسالة له رؤية واضحة منها ينطلق في الدعوة إلى هذه التعديلات.
رؤية جلالة الملك لتعديل مدونة الأسرة…ضرورة الإصلاح وضرورة حماية الثوابت
