Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

فرنسا…المترفون والبؤساء

إدريس عدار
ما يقع في فرنسا يختزل عهدا كاملا من الترف. لا نعني هنا الترف رغد العيش ولكن العيش تحت سقف تحقيق الحاجيات والرغبات. أن يوجد فقراء هنا وهناك أمر لا يخلو منه زمن. لكن اليوم لم يعد لدى الدولة الفرنسية ما تقدمه للمواطن. الترف كان يقدم عبارة عن خدمات. سوف ينتهي كل شيء لأن مصدر تلك الثروات كانت هي الدول الفقيرة.
تعيش فرنسا اليوم على وقع مطالب لم تكن مطروحة من قبل. مطالب الفرنسي في ماي 68 لم تكن لها علاقة بظروف العيش. لكن تحمل فكرا مختلفا. فجاءت حركة السترات الصفراء لتعلن نهاية عهد وبداية عهد جديد. تكتمل حلقاته الأولى بالاحتجاجات المتواصلة حول فرض نظام التقاعد. هذا القانون تم فرضه قانونا. فماكرون رئيس منتخب والدستور يمنحه حق تمرير القانون دون العودة إلى البرلمان. استبداد مقنع بأردية برّاقة.
قبل أربع سنوات كتبت عن السترات الصفراء ونزع سحر الديمقراطية، أستعيد بعض فقراته التي أرى أنها تحكي عما يجري اليوم. كتبت:
لا تتجاوز حركة “السترات الصفراء” الفعل الاحتجاجي العفوي، والتعبير عن الغضب الناتج عن انتهاك الدولة الفرنسية لمستويات الرفاهية، التي كان يعيش عليها المواطن الفرنسي، لكنّ الصورة التي رسمتها عن نفسها؛ هي أنّها حركة عفوية تعتمد الفعل العاطفي، ولا ترتكز على مسوغات منطقية تربط الوسائل بالغايات؛ حيث ظهرت قوية، لكن بغايات لا ترقى إلى حركة اجتماعية ذات أفق سياسي، كما غلب عليها “التسطيح”، وهو رديف موضوعي للحركة التي لا تتوفر على قيادة ورؤية واضحة، والتسطيح هنا ليس بمعناه القدحي، لكن بمعنى الانطلاق من اليومي والمعيش بدل الانطلاق من الأفكار والأطروحات.
لكن رغم عفويتها؛ فإنّها تحمل في طياتها بذور “ثورة” سياسية وفكرية كبيرة، ليست بالضرورة أن تكون الحركة واعية بما تحمل؛ فأيّ تغيير جذري يبدأ من شعور عام لدى المواطنين؛ مفاده أنّ شكل النظام لم يعد قادراً على تلبية حاجياتهم، هذا الشكل ينتج عنه عدم المساواة وانتشار الفقر والاستبداد، وهنا لا ينبغي الخلط بين الاستبداد والقمع؛ فأشدّ أنواع الاستبداد هو ما تتم ممارسته بواسطة مؤسسات دستورية، انتخبها من يمارس عليه التسلط، ممارسة التسلط لا تتم دائماً عن طريق الرصاص والقمع، لكن بواسطة التشريعات، التي تخدم اللوبيات الاقتصادية والصناعية.
قصة الفرنسي مع الثورة دورية، تنطلق من فعل احتجاجي، وتنتهي بإنتاج أفكار ومفاهيم فلسفية، منذ خمسين عاماً؛ عرفت فرنسا الثورة الثقافية، التي قادها الطلبة، وانضم إليها مفكرون وفلاسفة، على رأسهم فيلسوف الوجودية، جون بول سارتر، ويمكن القول إنّها ثورة مجتمع الوفرة؛ بمعنى أنها لم ترفع مطالب سياسية واجتماعية، لكن حملت المطلب الثقافي.
مثلت رغبة الشباب في الثورة على التقاليد الثقافية والاجتماعية، ورغم أنّ الدولة حينها لم تستجب لمطالب الطلبة، لكن هذه اللائحة تم تنفيذها بالكامل، في عهد الرئيس الراحل، جيسكار ديستان، وللمرة الأولى تُطرح في فرنسا مفاهيم الحرية الفردية وغيرها.
اليوم بلغ الفرنسي حدّ الإشباع فيما يتعلق بالحريات والحقوق، حتى ظهرت حركات مناهضة لفكر التحرر الغربي، غير أنّه، في مقابل الإشباع في هذا المجال، أصبح يعاني من الفقر على مستوى الحقوق الاقتصادية.
وتميز الاقتصاد الفرنسي بسياسات اجتماعية، ومارس نوعاً من الممانعة تجاه العولمة وسياسات الرأسمالية، في الوقت الذي تبنّتها دول العالم، وجيء بماكرون لضرب هذا التوجه؛ فخطة ماكرون، التي اتجهت لملاءمة الاقتصاد الفرنسي مع نظرائه، تسببت في الضغط الاجتماعي.
الخارجون اليوم للاحتجاج لا تهمهم انتخابات برلمانية، ولا وجود أحزاب وديمقراطية، لكن يهمهم ما يأكلون؛ لقد عاشت فرنسا على الوفرة، واليوم تدخل عصر اقتصاد الندرة، لقد ظلّت تحتكر خيرات إفريقيا، التي أصبحت اليوم مزدحمة بالقوى العالمية والإقليمية، ودخول فرنسا معركة الربيع العربي كان من أجل ضمان موقع قدم لاقتسام الخيرات، لم يعد لدى أصحاب المصالح الكبرى ما يقدمونه لمن لا مصلحة لهم، بالتالي؛ لم يعد مهماً لدى المواطن الفرنسي الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يبدو أنّ الفرنسي، اليوم، يسعى للخروج من العبودية، قد يستشكل علينا البعض بالانتخابات الحرة والنزيهة؛ فهل هذا يفيد مواطناً أصبح رهينة لدى المؤسسات الرأسمالية؟
قديماً، قال ماركس: “تمّ خلق البرلمان للتهريج، أما القرارات فتصاغ في مكاتب الشركات”، وما تزال القرارات تصاغ في مكاتب الكارتيلات الكبرى، وفي البرلمان تتم المصادقة عليها.

Exit mobile version