الحديث عن المال يكاد يكون مجردا من أية فلسفة أو رؤية أخلاقية، ويبقى مجرد أرقام ومداخيل ومصاريف، لكن إذا كان هذا “معقولا” بالنسبة لرجال الأعمال فإنه ضار بالدول. في المجلس الوزاري، الذي ترأسه جلالة الملك محمد السادس، تمت مناقشة التوجهات الكبرى لمشروع قانون المالية لسنة 2023. هذه التوجهات مبنية على أربع ركائز مترابطة، وبدونها ستخرج الدولة عن مفهومها وطبيعتها التي ارتضتها لنفسها.
اختار المغرب قولا وعملا “الملكية الدستورية الاجتماعية” كنمط للحكم وصيغة لهذا التلاحم، لكن لا ننسى أن المغرب مؤطر بإمارة المؤمنين، التي يعتبر العدل أحد خصائصها الرئيسية، ولهذا تأتي توجيهات جلالة الملك دائما في سياق تأكيد الدولة الاجتماعية دون الدخول في نمط هيمنة مؤسساتها على الإنتاج.
أربع ركائز تمثل التوجهات الكبرى لمشروع قانون المالية الجديد. في أولاها ترسيخ ركائز الدولة الاجتماعية، من خلال تنزيل مختلف مكونات الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية، لاسيما استكمال تعميم التغطية الصحية الإجبارية لكل الفئات الاجتماعية، والتعميم التدريجي للتعويضات العائلية، وذلك عبر مقاربة جديدة للاستهداف المباشر للفئات الهشة، ترتكز على إعمال السجل الاجتماعي الموحد، وتسريع تعميمه على جميع جهات المملكة. وثانيتها، إنعاش الاقتصاد الوطني من خلال دعم الاستثمار، عبر تنزيل ميثاق الاستثمار الجديد، وتنفيذ الالتزامات المقررة في إطار مشاريع الاستثمار الصناعي.
وفي ثالثة الركائز يأتي تكريس العدالة المجالية، عبر مواصلة تنزيل الجهوية المتقدمة، وبرنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية. وفي الختام استعادة الهوامش المالية من أجل ضمان استدامة الإصلاحات، من خلال تعبئة كل الموارد المالية المتاحة، والحرص على عقلنة نفقات تسيير الإدارة، وتفعيل الإصلاح المتعلق بالصفقات العمومية.
في صياغة أي مشروع ليست هناك مصادفات ولكن هناك آليات تحكم ذلك، وفق توجيهات جلالة الملك، وهي هنا تمثل فلسفة وروح هذا المشروع. قد تكون الحكومة مشكلة من “تجمع المصالح الكبرى”، وبالتالي لن يكون همها سوى الاستثمار والربح، دون أن تكون لهذا الاستثمار فائدة وعائدات اجتماعية، لكن جلالة الملك بما هو راعي البلاد وحامي فئاتها الاجتماعية مهما تنوعت، ينطلق من فلسفة تدبير الدولة، لا حماية المصلحة، وبالتالي تشكل هذه الركائز الأربع فلسفة واضحة للرؤية المالية لدى جلالة الملك.
وينبغي التنبيه، كما نفهم من خلال التعامل مع الوثيقة، هو أن الصياغة ليست اعتباطية، والترتيب ليس نافلة كما أن العبارات والمفاهيم المستعملة ليست للتعبير ولكن لتحديد ما ينبغي فعله، وهكذا جاء مفهوم “ترسيخ الدولة الاجتماعية” في المبتدإ باعتباره المبتدأ والخبر في أي عملية مالية، وأي قانون مالية لا يستهدف الفئات الاجتماعية يبقى قانونا لخدمة الكبار، لكن هذا لن يضمن استقرارا اجتماعيا، الذي لا يمكن أن يبنى سوى على أساس العدالة الاجتماعية.
ولا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية إلا بالعدالة المجالية، التي تعني توزيع الثروة بالتساوي على الجهات حتى يستفيد كل أبناء المغرب من الفرص المتاحة في الاستثمار والشغل على حد سواء.
قانون المالية وفلسفة العدالة
