محمد فارس
لقد سَبق أن عقدتُ لقاءً مع الفيلسوف الأمريكي [ويل ديورانت] وهذا هو اللّقاء الثاني خلال هذه السَّنة، وحملتُ في جعبتي أسئلةً تتعلّق بالدّيمقراطية والتعليم، وقدِ استقْبلني بابتسامة عريضة كعادته، كما رحّبت بي السّيدةُ حَرمُه وقدّمت لي فِنجان قهوة، فسألني السّيد [ويل ديورانت]: هل أعجبتكَ قهوتُنا؟ قلتُ: نعم، هذا لطفٌ منكَ سّيدي.. قال: أنا أعرف أنّك كثير الأسئلة، وأنا الآن كُلِّي آذان صاغية، فحوْل ماذا ستسأل اليوم؟ قلت: سوف أسأل سيادتَك حوْل موضوعيْن اثنين: أولهما الديمقراطية وقد قرأتُ في كتابِكَ الضّخم عن إخفاق الدّيمقراطية؛ والثاني هو أنّك تعتبِر المدارس قد تحوّلت إلى سجون أو معتقلات، فكيف تردّ حول الموضوع الأوّل المتعلِّق بإخفاق الدّيمقراطية؟
[ويل ديورانت]: يجب أولاً أن نُفرق بيْن نشأة الديمقراطية في العصر اليوناني القديم، ونشْأتها في العصر الحديث، وهو ما يهمُّنا بالدّرجة الأولى.. لقد نشأت الديمقراطية التي قال [مونْتسْكيو] إنّ مبدأَها هو الفضيلة، من المال والبارود، ذلك أنّ المدافع والبنادق دكّت قِلاعَ الإقطاعية، وجعَلت الفُرْسان المتعجرفين البارزين على خيولهم فريسةً سهْلة للمُشاة، وسوَّت بيْن السّفلَة والأشراف في ميدان القتال، وأعادت لأوّل مرّة منذ [ڤيتاغوس] بعض المنزلة لِلْعدد. وقد سهّل اختراعُ سَكِّ العُملة، ونظام الأثمان، سُبل التّجارة، وجمْع الثّروات، فتولّدت أرستقراطية الأرض، وأصبحتْ “سُلطة ثالثة” لها مركزٌ سياسي يتناسب مع قوّتها الاقتصادية المتزايدة، وكان [ڤولتير] و[روسو] أجهر أبواق هذا التّغيير، فأَذكى في الشعب ذيْنكُما الشِّعاريْن الثّمينين: [الحرية والمساواة]، وكانتِ المساواة تدلّ على السَّماح باشتراك الطّبقة المتوسّطة مع الأرستقراطية ورجال الدين في سلطان الحكومة وغنائِمِها، ويُخيّل إلينا أنّ الإخاء كان في الأصل يدلّ على تمكُّن رجال المال، والتّجار، والخبّازين، والجزّارين، من دخول صالونات الأرستقراطية.. وفي الدّستور الذي وضعه مجلس الثّوار الفرنسي، لم يُدْرج ثلاثة أخماس البالغين في قوائم الانتخاب، وفي قوانين (الولايات المتحدة) كان ينصّ على نِصاب مالي بالنّسبة إلى حقّ الانتخاب حتى أيام الرئيس [أَنْدرُو جَاكسون] سابِع رئيس للبلاد، وقد مهَّد الطّريق لتلكَ الفردية التي تختفي وراء الأخُوة الديمقراطية، هذا إلى أنّ العلماء والفلاسفة من [كوبِرْنيك] إلى [داروين] أهوَوْا بمَطارقهم يَدُقّون رؤُوسَ الخُرافات عن طريق الطّباعة، فأدّى ذلك إلى انهيار الاعتقاد السِّلبي والـمُنافِق في الآخرة، وحلّت محلّه ثِقةٌ ساذَجة في فردوس أرضي يشارك فيه جميعُ الناس أذكياء وأغبياء، متعلّمون وجُهلاء على السّواء في السّعادة والسّلطان، فهل تحقّقَ ذلك في ظلّ ديمقراطية مزَيَّفة؟ الجواب: كلاّ، بكلّ تأكيد!
سؤال: هل تريد سيادتُك أن تقول إنّ ديمقراطية صارت مجرّد شعار خادع، ووَهْمٍ راسخ في عقول الناس، وأنّها تَنتقل من إخفاق إلى إخفاق، أم ماذا؟
[ويل ديورانت]: بكلّ تأكيد، لقد أصبح التاجِرُ والخبّاز والنّجار من أصحاب الأموال، ونفَذُوا إلى الأحزاب يُنفِقون عليها فتزكّيهم وترشّحهم للانتخابات، فليس غريبًا أن تجد خَبّازا أصبح ثريًا، فصار رئيسَ حكومة أو وزيرًا، أو سيناتورًا، حتى أمسَت الدولةُ تُدار بأحطّ رجالها.. إنّ أعمق أساس لما يسود حياتنا السّياسية اليوم من نفاق، وفساد، وكذِب هو سيطرة أصحاب المال على مراكز القرار السياسي؛ هذه القرارات تخضع لملايين الدّولارات بدلاً من أن تخضع لملايين النّاخبين الذين أدلوا بأصواتِهم بعدما انخدعوا بوعود زائفة، وبشعارات مُضلِّلة، والدّليل هو ما تراه عندما تَقْدِم الحكومة على قرار جائر، فتحتشِد قوات الحرس الوطني والشّرطة لقمْع الغاضبين وتفريق تظاهراتهم، فتصبح المسألةُ موكولةً لا إلى سياسيين مُخادعين، بل تُصبح القضية قضيةَ هراوات وغازات مُسَيِّلة لِلدّموع؛ فالهُوة اليوم بيْن أكثَر النّاس وأقلِّهم حظّا هي أعْظَم اتّساعًا من أيّ يوم مضى منذ عهد [روما] في ثروتها، وأيّ نفْع للمساواة في الانتخاب حين تكون الثّروة مُوزّعة هذا التّوزيع غيْر الـمُتكافِئ، وحين تخضع القرارات السّياسية لصَوْلة الأموال أكثر ممّا تخضَع لملايين النّاس في بلد من بُلدان هذا العالم.. من الطّبيعي جدّا أن تَنمو الإقطاعيةُ تحت صورٍ شتى في كلّ حزب، في كلّ حكومة، في كل برلمان، والدّيمقراطية هي القالب الذي تَنْمُو فيه حكومة الأقلّية، والشعبُ مشغولٌ بأمر معاشِه، ولن يستطيعَ الناخبُ الذي صوّت بالأمس أن يعْرف ما يدور تحت أنفه من أحداث وقرارات ليست في صالحه، وكيف له أن يَعرف؟ والديمقراطية عمومًا هي حكومة أولئك الذين لا يَعرفون من وزراء، ومن أصحاب القرار، ومن أعضاء في المجالس الجاهلة.. فالحكومة ليست حكومَة الشّعب، والبرلمان لا يمثّل الشّعب، فهو برلمان به أعضاء كل ما يفْعلونه هو رفْع الأصابع تأييدًا للحكومة في كلّ قرار عشوائي، فماذا بقي للشّعب؟ كلُّ ما بقي له هو انتظارات، وآمال وهمية، وإعلامٌ يروّج لديمقراطية مزيَّفة، ويُثْني على مؤسّسات صورية، وسببُ إخفاق الديمقراطية هو شيوع الجهل بحقيقتها…
لماذا أخفقَت الدّيمقراطية؟ حوار مع [ويل ديورانت]
