محمد فارس
في ابتداء الدّيمقراطية، كانت العَملية كلّها تكادُ تكونُ وقْفًا على الأغنياء والأثرياء، فقد كان ينصّ نصّا صريحًا على أن المترشّح ينبغي أن يكون مالكًا لنصابٍ ماليّ مُعيَّن، وأن يثْبتَ ذلك بإثباتات رسمية حتى يباحَ له أن يدخُل المعركةَ الانتخابية، وفضلاً عن ذلك، فإنّ نفقات الدعاية الانتخابية كانت وما تزالُ في طوْق الأغنياء وحْدَهم دون الفقراء، كما أنّ النّاخبين أنفُسهم، كانوا خاضعيـنَ لقيود تجعل عددَهم ضئيلاً وفرصة التّأثير عليهم بشتّى الوسائل، حتى شراء الأصوات بالمال، وبوعود تُعطى لهم؛ لذلك كان [نوابُ الأمّة] أبْعَد ما يكونون عن تمثيل الأمّة في حقيقة الأمر.. فالشّيوعيةُ، والاشتراكيةُ، والإسلاموية كلّها تتّفق على أنّ الذي يَملك، هو الذي يحكُم، لذا رأيتهُم أنّهم كلّما وصلوا إلى السّلطة، إلاّ وعملوا على أن يصبحوا أثرياءَ بأيّ ثمن، وأنه في الديمقراطية الليبرالية المتوحّشة يكون المالُ في يد الطّبقة الرّأسمالية، فهي التي تملِك، ومن ثمّة فهي التي تحكُم، وهي التي تضع التّشريعات التي تَحمي مصالحَها ضدّ مصالح الطّبقة الكادحة؛ فالديمقراطيةُ اللّيبرالية الـمُفْترسة، تتحكّم في أقوات ومصادرِ عيش الشّعب، وكلّما ازداد الشّعبُ فقرًا كانتِ السّياسةُ ناحجة ونتائجُ الانتخابات مضمونة سلفًا رغْم مسرحيات الانتخابات الصُّورية، وهذا مشكلُ بلادنا الآن..
في الواقع، ما كان لوالي بنكِ المغرب أن يثيرَ هذه الزّوبعة في فنجان بقوله إنّ هذه الوعود لن تتحقّق ونحن نعرف ذلك مُسْبقًا؛ وما كان له أن يصرّح بأنّ الفسادَ هو الأصلُ في عدم ثقة الشّعب بالأحزاب، ونحن نعرف ذلك ولا حاجةَ لنا بمن يذكّرنا؛ كان عليه أن يعرفَ أنّ تلك الوعود يوجَد من يَسعَد بها وإن كانت ستؤدّي به إلى الشّقاء في آخر المطاف؛ هذه الوعود الواهية تدخل ضمْن عملية التّرغيب، وأصحابُها يعرفون أنّهم يكْذبون، ووالي بنك المغرب يعْرف أن الأمرَ يتعلّق بدعاية انتخابية وقد ألِفَ الشعبُ وعودًا أمثالها أُعطيَتْ له خلال حملاتٍ سابقة ولا شيء منها تحقّقَ دومًا، أبدًا.. وأما الفسادُ فله حُماتُه، وهيهات أن يحارب، وكل من تعهّد بمحاربته، قدّم اعتذارَه للفاسدين وقال: [عفا الله عمّا سَلَف]؛ لهذا فنتائجُ الانتخابات ستكون معروفة ومحسومة، ولستُ بِمُنَجِّم، ولكنّ الواقعَ يؤكّد ذلك وعلينا أن نهنّئ الحزب الفائز وقد صار معلومًا قبْل الاقتراع..
قال [ڤيكتور هيجو]: [عندما يتكلّم المال، كلُّ الأبواب تُفْتَح]؛ وهذه مسألة قديمة في التاريخ، وليست مرتبطة فقط بالدّيمقراطية الشّقية في عالمنا العربي، وفي [مَغْربنا]؛ فلقد نهجَ الإمامُ [عليّ] كرم الله وجهَه، ديمقراطيةً في التّسيير والتّدبير، وسلكَ نهْجَ التّقوى والورع في مال الله، ومع ذلك انتصرَ عليه [معاوية] وقد استمال بالمال والثّراءِ حتى صحابةً لا حاجةَ بنا إلى ذِكْر أسمائهم لحساسية الموضوع، لكن نَذكُر [عقيلاً] وهو أخُ [عليّ]، وقد انضمّ إلى [مُعاوية] وصار من أنصاره، فقد قال له [معاويةُ] عندما استقبله في اليوم الأوّل وسأله: [كيف تركتَ أخاكَ (عليّا)؟]، فأجابه (عقيل): [لقد تركتُه خيرًا لنفسه، وهو خيرٌ لي منك]؛ وفي اليوم التالي، أمر له بنياقٍ مُحمَّلة وأموال كثيرة ثمّ استدعاه وسأله: [يا (عقيل) كيف تركتَ أخاكَ (عليّا)؟]، فأجابه (عقيل): تركتُه خيرًا لنفسه، وأنتَ خيرٌ لي منه]؛ فالسّلطة والمالُ يجعلان أهلهما سُكارى وما هُم بسُكارى، إنّه تأثير المال والسّلطة ليس إلاّ..
إنّ المال وبلا شكّ يُفسِد حتى الدين، فما بالُك بالدّيمقراطية والانتخابات! وقبل الختام، أخصّص هذه الفقرة لأهنِّئ مسْبقًا رئيسَ الحكومة القادم وحزبَه الفائز في الانتخابات المقبلة التي ستَكون خُلْوًا من المفاجآت ومن التّشويق الـمَهيب: [Suspense]؛ ومَن يا تُرى يستطيع بديمقراطيتِه مواجهةَ من يتحكّم في المياه والغابات، والفلاحة، والضّيعات، وفي الثروات البحرية والبرّية، ويتحكّم حتى في وسائل النّقل بواسطة المحروقات، وشركتُه من المساندين للبطولة في كرة القدم، وحوْله أباطرةُ المصانع والمعامل ومراكب الصّيد، ومن أراد الحفاظَ على منصب الشّغل وعلى مصدر عيْش أُسرتِه، فعليه التّصويت على هذا الحزب، بالإضافة إلى مليون عاطل وعَدَهُم بالشّغل، وآلاف المدرّسين وعدَهُم برفع مرتّباتهم، ومتقاعدين وعدهم بالدّعم المالي، فمَن يا تُرى بمقدوره مواجهةُ عاصفة الأكاذيب هذه حتى وإن تعلّقَ الأمرُ بشعب بأسره؟ والحزبُ ليس بحاجة إلى تصويت الشّعب عليه، فلِلحزبِ أغنياؤُه، ولرئيس الحكومة القادم أنصارُه من باطرونات، ومديرين، وفنّانين يطبّلون له ويعْلون من شأنه، فهذه ديمقراطية الأحياء الأموات، وكم من انتخابات صوّتَ فيها الأمواتُ كما حدثَ في [الـمَجَر] سنة (1956)، وقد حدث مِثْله في [المغرب] يوم رفعَ هذا الحزبُ شعارَ [التّصحيح]، وقد رأيتَ المنْشقّين من أحزابهم يُهرولون زُرافات، زُرافات نحْو [جنّة العَبِيط] وما أكثر العُبْط.. وسوف يَزداد [المغربُ] بُؤْسًا، وفقرًا، وذُلُّقراطيةً:
[كلّ مَن تلْقاهُ يَشكو دَهْرَهُ * ليتَ شِعْري هذه الانتخاباتُ لِـمَنْ؟]..
مَن بِمَقدورِه مواجهةُ ديمقراطية المال والأعمال؟
