Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

مُصعَب بن عُمَير تَركَ النِّعمة الوارفة حبّا لله ورسولِه

محمد فارس
من هو هذا الرجل من أصحاب [محمد]؟ غُرّة فتيان قريش، وأوفاهم بهاء، وجمالا، وشبابًا، يصفه المؤرّخون والرواة فيقولون: كان أعطر أهل مكّة، ولِد في النعمة، وغُذِّي بها، وشبَّ تحت خمائلها، ولعلّه لم يكن بين فتْيان مكّة من ظفر من تدليل أبويْه بمثل ما ظفر به [مُصعب بن عميْر]، ذلك الفتى الرّيان، المدلّل المنعّم، حديثُ حِسَان مكة، ولؤلؤةُ ندواتها ومجالسها؛ كيف تحول هذا الفتى إلى أُسطورة من أساطير الإيمان والفداء؟ فما أرْوَع نبأ [مصْعب بن عُمير] أو [مصعب الخيْر] كما لقّبه المسلمون؛ إنه واحد من أولئك الذين صاغهم الإسلام، وربّاهم [محمّد] عليه الصلاة والسلام.. كان [مصعب] رغم حداثة سِنّه، زينة المجالس والنّدوات، تَحرِصُ كل ندوة على أن يكون بين شهودها لأناقة المظهر، ورجاحة العقل، لقد سمِع فيما سمِع أن الرسول ومن آمن به يجتمعون بعيدًا عن فضول قُريش وأذاها، هناك في دار [الأرقَم]، فزارَ تلك الدار تسْبقُه أشواقُه، وفي لمحِ البصر، آمن الفتى وأسلم وانفتح قلبُه للإيمان..
كانت أُمُّ [مُصْعب] [خُناسُ بنت مالك] تتمتّع بقوة فذّة في شخصيتها، وكانت تُهابُ إلى حدِّ الرهبة، ولم يكن [مصْعب] حين أسْلم ليحاذرَ أو يخافَ على ظهر الأرض قوَّةً سِوى أُمِّه.. قرّر أن يكتم إسلامه، وأمّه لا تعلمُ شيئًا عن إسلامه، ولكن في مكّة تلك الأيام، لا يَخفى فيها سرٌّ، لقد أبصر به [عثمانُ بن طلحة] يدخلُ خِفْية إلى دارِ [الأرقم]، ثم رآه مرّة أخرى يُصلّي فوشى به إلى أمِّه التي طار صوابُها لِـمَا سَمعتْ، فحبستْه في ركنٍ بِدارها، لكنّه غافلَ الحرّاسَ ومضى إلى [الحبشة] مهاجرًا.. لقد منعتْه أمُّه حين يئِسَت من ردّته كل ما كانت تفيضُ عليه من نِعْمة.. خرج يومًا على بعض المسلمين وهُم جلوسٌ حوْل رسول الله، فما إنْ بَصروا به حتى حنَوْا رؤُوسهم، وغضّوا أبصارهم، وذرفتْ بعض عيونهِم دمعًا شجِيًا لَـمّا رأوْه يَرتدي جلبابًا مرَقّعًا باليًا، فعاودتهُم صورتُه قبل إسلامه؛ تملّى رسولُ الله مشهده وقال: [لقد رأيتُ (مصْعبًا) هذا، وما بِمكة أنْعم منه عند أبويْه، لقد ترك ذلك كلّه حبّا لله ورسوله]؛ خرج من النّعمة الوارفة، ولكنّ روحَه مُتأنِّقة بسموِّ العقيدة وبنورِ الله..
اختاره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يكون سفيره إلى [المدينة]، يفقّه الأنصار الذين آمنوا، ويعدّ المدينة لِيوم الهجرة العظيم؛ فحَمل [مصعب] الأمانةَ مستعينًا بما أنْعَم الله عليه من عقْلٍ راجح، وخلُق كريم؛ لقد نجح أولُ سفراء النبي الكريم نجاحًا باهرًا، نجاحًا هو له أهل، وبه جدير.. وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجِر الرسول وصحبه إلى المدينة، وتَتَلمّظ قريش بأحقادها، وتعدّ عدَّة باطِلها، لتواصِل مطاردتَها الظّالمة لعبادِ الله الصّالحين، وتقومُ [غزوة بدْر] فيتَلقّوْنَ فيها درسًا ويفقِدون صوابهم، ويسعوْن إلى الثّأر، وتجيءُ [غزوةُ أحُد]، فيقف الرّسولُ صلى الله عليه وسلم وسط صُفوفهم، يتفرّسُ الوجوهَ المؤمنةَ ليختارَ من بيْنها من يحمِل الراية، ويدعو [مصْعب الخير] فيتقدّم ويحْمِل اللِّواء؛ وتشبّ المعركة الرّهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرّماةُ أمْرَ الرسول عليه السلام، ويغادرون مواقعَهم في أعلى الجبل، بعد أن رأوْا المشْركين ينسحِبون مُنْهزِمين؛ لكنّ عملهم هذا، سُرعان ما يحوّلُ نصْر المسلمين إلى هزيمة، ويُفاجأ المسلمونَ بِفُرسان قريش تغشاهُم من أعلى الجبل وتَعْمل فيهمُ السّيوف المجنونة على حيـنِ غِرَّة..
أدرك [مصعبُ] الخطر الغادر، فرفع اللّواءَ عاليًا، ومضى يصولُ ويجول، وكلّ همِّه أن يُلْفت نظَر الأعداء إليه ويَشْغلهم عنِ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أجلْ، ذهبَ [مُصعب] يقاتِل وحْدَه كأنّه جيش لجب، ويدهُ تحمِل الرّايةَ في تقديس، ويدٌ تضرب بِالسّيفِ في عنفوان؛ ولكن الأعداءَ يتكاثرون عليه، ولندَعْ شاهِدَ عِيان يصف لنا مشهد الختام في حياة [مصعب بن عميْر].. يقول [ابنُ سَعد]: أخْبرنا إبراهيم بن محمد بن شرحْبيل العبْدري، عن أبيه قال: حمَل [مُصْعب] اللّواءَ يوم [أحُد]، فلمّا جال المسلمونَ ثبت به [مصْعب]، فأَقْبل [ابنُ قمينَة] وهو فارس، فضربه على يدِه اليُمنى فقطَعها، ومُصعب يقول: وما محمّدٌ إلاّ رسولٌ قد خلتْ من قَبله الرُّسل؛ فأخذ مصْعب اللّواءَ بيدِه اليُسْرى وحنا عليه، فضربَ [ابنُ قمينة] يدَه اليُسْرى فقَطعها، فحنا على اللِّواء وضَمّه بعضُديْه وهو يقول: (وما محمّدٌ إلاّ رسولٌ قد خلتْ من قبله الرّسل)، ثمّ حمل عليه الثّالثةَ بالرُّمح فأَنْفَذه، واندقَّ الرّمحُ، وسَقط [مصعب]؛ سقط حلْيةُ الشّهادة، وكوكبُ الشّهداء؛ وقعَ بعْد أن خاض في استبسالٍ عظيمٍ معركة الفداء والإيمان؛ كان يظنُّ أنّه إذا سقطَ، فسيصْبح طريقُ القَتلة إلى رسول الله خاليًا من الـمُدافعين والحُماة.. كان يقول مع كل ضَربة سيْف تقتلِع منه ذِراعا: (وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)؛ هذه الجملة التي كان يردّدُها [مصعب] وهو يقاتل، ستصير آيةً، ينزِل الوحيُ فيما بعْدُ يردّدها، ويُكملها، ويَجعلها قرآنا يُتْلى.. جاء الرسول وأصحابُه يتفقَّدون أرضَ المعركة، وعند جثمان [مصْعب] سالتْ دموعٌ وفية غزيرة؛ رحمَ الله [مُصعبًا]..

Exit mobile version