Site icon أشطاري 24 | Achtari 24 – جريدة الكترونية مغربية

هلِ الشّعب هو الذي يختار الرّئيس في أمريكا أم جهة أخرى خفية؟

محمد فارس

تنبّأ [سانت بيف]، وهو ناقد فرنسي مشهور، يقوم مذهبُه في النقد على تمييز عبقرية كل كاتب، وتحديد معالِم الذّوق الأدبي، تنبّأَ بأنّ الديمقراطية قد تحْمِل أصحاب المقدرَة على العُزْلة، وتكهّنَ [رينان] بأن سُلطان الأعداد، وتَوجُّهها قد يرفعان الـمُحتالين والدّجالين إلى الحكم، فتنقلب الدّولة إلى تفاهة مُسْتهترة؛ وهذا [دي تُوكْڤيل] في زيارته الثّانية لـ(أمريكا) يَكتب في قنوط: [قلّما يوضع أَقْدرُ الناس في (الولايات المتحدة) اليوم في المناصب الرّئيسية، ويَنبغي أن نعترف بأن هذه هي النتيجة التي تبْلغها الدّيمقراطيةُ عندما تجتازُ جميع حدودها الأولى، ومن الواضح أنّ نوع حُكّام (أمريكا) قد انحطّ انحطاطًا شديدًا خلال الخمسين سنة الأخيرة]؛ ويعلّق فيلسوفٌ أمريكي قائلاً: [ونحْمد الله على أنّ [دي تُوكْڤيل] قد مات، ولا يستطيع أن يرانا الآن، ولا أن يشاهد انتخاباتنا اليوم، حيث [أمريكا] يحكمُها أحطّ الرّجال]..
ويقول الفيلسوف الأمريكي [ويل ديورانْت] في كتابه [مباهج الفلسفة]، صفحة: (417): [لقد انهارت الديمقراطية في (أمريكا) على الأقل، ذلك أنّها أخفَقت بوضوح في أن تمنحنا رئيسًا بوساطة الشعب، أو حكومة بوساطة الأفضل؛ فإذا كان أيّ قارئ رقيق لهذا الكتاب، يعتقد أنّ الشّعب يحْكم بالفعل في (أمريكا)، أو أنّه يحدّد مثلاً الحربَ والسّلم، أو السّياسة الاقتصادية، أو معدّل التّعريفة، أو التّعيين في المناصب، فالأفضل لهذا القارئ أن يَغْفل قراءة هذه الصفحات، وكذلك إذا اعتقدَ بعضُ القراء أنّ الدّيمقراطية قد هيّأتْ لنا حكومة بوساطة أحكمِِ الناس أو أقْدرِهم، فيَحْسُن بهم أيضًا أن يمرُّوا بهذه الصّفحات مرّ الكرام أو لا يقرؤُوها على الإطلاق، وهذه نصيحتي لهم].. ونحن نسأله لماذا هذا التشاؤُم، ولماذا هذه السّخرية من الدّيمقراطية في الانتخابات الأمريكية؟
يجيب على هذا السؤال المؤرّخ [ويليام كار] في كتابه: [أحْجار على رقعة الشّطرنج] بقوله: [تظنّ أغلبية الشعب الأمريكي، أن الدّستور منذ وضعِه أصبَح شيئًا مقدّسًا، ولزام على كلّ القوانين التي تصدر أن تُطابِقَ الدّستور، ولكن الواقع، هو أن حُرْمة الدستور قد انتُهِكتْ]؛ وما يفعلُه مثلاً [ترامْب] بسياسته، وبعبثيته لدليلٌ على صحّة ما قاله [ويليام كار] دون لُبْسٍ أو غموض.. ويرى [ويليام كار] أنّ القِوى الخفية كانت دائمًا وراءَ الكواليس، بعيدة عن الشّبُهات، لا يَعرف سرّها إلا القلّة القليلة من الناس في (أمريكا)، فيما هي كانت وراء إعادة الشعب الأمريكي إلى العبودية الاقتصادية، وهي سياسة [ترامب] كما هو واضح لكلّ مَن له نَظْرة مُلِمّة بالواقع..
رأينا قبل أيام مسْرحيات تُوحي إلينا بأنّ الشعب الأمريكي اختار بيْن [ترامب] ومنافسه الديمقراطي [دجو بايْدَن]، فيما الاختيارُ لم يكنَ اختيارَ شعْب ما زال يؤمنُ بالدّيمقراطية، وبنزاهة الانتخابات؛ فالرئيسُ تمّ اختيارُه سلفًا من طرف [المفوّضية الثّلاثية]، وهي جزء من (القوى الخفية) وهي التي اختارت قَبل ثلاثين سنة جيمي كارتر] للرئاسة، ووضعت أمامه أجنْدتها ليَرى هل يَسْتطيع تَنْفيذها، وإذا أظهر عجزًا أو تَردّدًا، استُبْدل بمَن هو أصلح لخدمة (القوى الخفية)؛ و[ترامب] نجحَ في تنفيذ بعض بنود هذه الأجندة، فإذا كان منافسُه أكفأَ منه، وأكثر حماسًا، وطوْع أيْدي هذه القوى، فيخسِرُ [ترامب] منصبَه، وإذا بدَا أنّه أكثر كفاءة من خصْمِه، فسيظلُّ في منصبه لولاية ثانية؛ و[ترامب] قد فعل الكثير، فقد نقلَ سفارة بلاده إلى [القدسْ]، وأبدَع صفقة القرن، وجرَّ بعض الدول للتّطبيع مع [إسرائيل]، واستخفّ بوباء [كورونا] حتى أودى بحياة الآلاف من الأمريكيين، وأظهَر عنصريةً مقيتةً ضدّ السّود، كما اتّخذَ عدّة قرارات استبدادية، وعَدائية استجابة لأقلّية تملي له خلْفَ السّتار، ويُمْكن لنتيجة الانتخابات أن تُغيَّرَ في أيّة لحظة، وما استطلاعاتُ الرّأي إلا مسرحية أو فولكلور يتابعه محبّو الفرجة..
قد يسألني القارئ الكريم: هل حدَث أن تغيّرت نتيجة الانتخابات الأمريكية؟ الجواب: نعم؛ لقد حدث ذلك، ففي (02 نونبر 1948)، نشرت الصّحافةُ الأمريكية في السّاعة الثّالثة صباحًا أنّ منافس [ترومَنْ] هو الذي فاز، ولكن، عند السّابعة صباحًا، تمّ الإعلانُ المفاجئ أنّ [ترومَن] هو الذي فاز، واضطُرّت الصحافة المكتوبة إلى إصدار طبعة جديدة بعدما تغيَّرتْ نتيجة الانتخابات، وحدث مثْل هذا، حيث تأخّرت نتائج الانتخابات ستّة أشهر، بعدها تمّ إعلانُ فوز [جورج بوش الابن] على [آلْ غُور] نائب الرئيس [كلينتون] سابقًا، وقد تمّ التلاعبُ بانتخابات ولاية [فلوريدا] تمامًا كما تمّ التلاعبُ بانتخابات [شكاغو] سنة (1960) ليفوزَ في الأخير [جون كنيدي] بفارقٍ ضئيلٍ جدّا.. وهكذا، فإن جهةً أخرى قويّة هي التي تحدّد نتائج الانتخابات، وهي التي تختار الرئيس مسْبَقًا، وهي التي تمتحِن المرشّحين لترى أيّهم أصْلح لتنفيذ أهدافها، وصدق فيلسوفٌ أمريكي حين قال إنّ الشّعب في الديمقراطية لا دوْرَ له؛ ولعلّ الانتخابات الأمريكية خيرُ دليل على صِدْق هذا الرّأي رغْمَ غرابتِه..

Exit mobile version