محمد فارس
يقول الفيلسوف النّرويجي الكبير [جوسْتاين غَارْدَر] في كتابه الذي تُرجِم إلى عدّة لغات، وانتشر انتشارًا واسعًا عبْر العالم، ونال جائزةً من ملِك [النّرويج]، يقول في الصفحة (235) من هذا الكتاب الذي عُنوانُه: [عالم صوفي، رواية حوْل تاريخ الفلسفة]: [رُبّما يكون فصْل في دراسة الفلسفة أفضل وسيلة لمقاومة الإرهاب والعنف، ما رأيُكم في ملخّص صغير في الفلسفة موجّه للأمم المتّحدة، يوزّعُ على جميع مُواطني العالم، كلٌّ بلغته؟ سأَطرح هذه الفكرة على الأمين العام للأمم المتّحدة].. فالإرهابُ هو مسألة فِكرية مردُّها إلى الفهم الخاطئ للدّين وإلى غموض المفاهيم، وتأويل الرّوايات التّراثية تأويلاً مغلوطا، وتسرُّب أحاديث كاذبة أو موضوعة نُسِبت للإسلام، والإسلامُ منها براء، لأنّه دينُ الأمن والسّلام، والمسلمُ هو مَن سَلم الناسُ من يدِه ولسانِه، هكذا فسّره الرّسول الكريمُ صراحةً..
وعلى ذِكْر الفلسفة، كانت بلادُنا في السّبعينيات من القرن الماضي، معروفة كلّ جامعاتِها بالفلسفة، وكان أساتذةُ هذه المادّة يُعتبَرون نجومَ المؤسّسات التّعليمية، وكانت الكلّياتُ تزخر بأساتذِة الفلسفة من أمثال الجابري، والعَروي، وسامي النّشار، وزكريا إبراهيم، ورُشْدي فكّار، والمهدي بنعبود، والمهدي المنجرة، والقائمةُ طويلة، وكان التلاميذ والطّلبةُ في حوارٍ دائم، منهم الوجودي، والماركسي، والبرْغسوني، والهَيْغيلي، وغير ذلك، ولكنْ عند نهاية السبعينيات، بدأتْ تلك الشّنشنات التي تتّهِم الفلسفةَ بالإلحاد، وتدعو لمحاربتِها وتهميشِ مُتعاطيها، وسايرتْهُم السّلُطات في ذلك، فضُرِبتِ الفلسفةُ واعتُبِر المدافعُ عنها مُرْتدّا، وبدأ الفلاسفةُ وأساتِذة الفلسفة يغادرون البلاد، أو يَنْزَوون في صمتٍ بعْد كل التّهم التي كيلتْ لهم، وتراجعت دراسةُ الفلسفة وانتشَر فكْر الإسلامويين، وبرزتْ إلى الوجود ظاهرة الدّعاة، والجماعات المتطرّفة التي اعتمدَت في خطابِها الرّوايات الدّينية الموضوعة والمغلوطة، وصار هؤلاء الدّعاة هم محتكِري الحقيقة، وهم من ينادي بالإسلام الحقيقي، فارتُكِبتْ جرائمُ في الجامعات وحلّتِ الظلاميةُ المقيتةُ..
عندما خبا التّفكيرُ الفلسفي، وتداعتِ الفلسفةُ تحت وطأة الظّلامية الإسلاموية مُحتكرة الإسلام (الحقيقي)، والدّاعية إلى الله بفكرٍ مغلوط، تراجعَ الحوارُ الفلسفي، وانتشرت أشباهُ الألفاظ التي تأخذ المستمعَ بجرْسِها لا بمعناها، ودبّت البِدَعُ والتّرهات في الأذهان، وانتشرت الأوهام، وبرزتْ مقولة [الجهاد] التي ارتبطت بالغدر، والعنف، والقتل، وإراقة الدِّماء للتقرّب إلى الله بما حرّمَه الله ونهى عنه في آيات بيّنات، وحذّرَ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فارتبطَ الإسلامُ في أذهان الناس بالإرهاب، والغدرِ، إلى درجة أنّ دورَ العبادة نفْسها لم تعُدْ لها قداسةٌ أو حرمةٌ، فكانت نتيجة هذا الوضع المشين والخطاب الدّموي أنّ البعض ارتدّ عن الإسلام، وصار مُلْحِدًا، أو تَمسّح، أو تهوَّد؛ وهكذا، فكلّ ما كان يُخاف من الفلسفة وكلّ التّهم التي كانت تكالُ للفلسفة ثبتَ في حقِّ التفكير الدّيني المغلوط والـمُنافي للإسلام، وكلّ ما اعتمدوه من تُهم ضدّ الفلسفة، ثبتَ في حقِّ التّفكير الديني الـمُنحرِف، فما كانت الفلسفةُ هي السّببَ في الإرهاب، أو الرّدة، أو الإلحاد الذي كثُر وانتشر، وممّا زاد الطين بلّة، هو امتزاجٌ ملحوظ في أذهان الجهَلَة بين الدّين والإرهاب والعنف والغدر، وصار المسلمون يعانون من هذا الوضع، ويتّهمون بالإرهاب بسبب هذا التّفكير الدّيني المغلوط والمنحرف..
والآن، سيّدي القارئ الكريم، تفضّل بهذه الملاحظة حتى وإن كانت صادمة نوعًا ما، وهي أنّكَ ستجد العالِم، والمهندس، والطّبيب، والخبير في المتفجّرات قدِ ارتمى بعضهُم في أحضان الإرهاب، وعرضوا خبرتهم على الجماعات الإرهابية الدّموية، وصارت علومُهم في خدمة العمليات الإرهابية عبْر العالم، ولا حاجةَ لي في إعطاء أمثلة، أو أسماء لهؤلاء الإرهابيين العلماء أو الخبراء، ولكن دعْني أَسألكَ بصراحة: هل وجدتَ من بينهم فلاسفة خدموا الإرهاب، أو زكّوه، أو نشروه بفلسفتهم؟ الجواب: كلاّ! وحاشا ذلك؛ فلا تجد فيلسوفًا انضمّ إلى هذه الجماعات الإرهابية، ولا تصادف فلسفةً تجمِّل وجْه الإرهاب أو تدعو إليه أو تحضّ عليه أو تحرِّض الفردَ على تعاطيه، لأن الفلسفةَ في حدِّ ذاتِها تخاطِب العقلَ، وتصقل الذّهنَ، وتدرّب على الحوار العقلاني بصدرٍ رحْب لارتباطها بالإنسان، وبالوجود وبماهية الكائن العاقل.. إنّك تجد فلاسفة عذّبوا، وأُحْرقوا وهم أحياء لتنديدهم بالظّلم، وبسبب دعْوتهم للعدل والحرّية وحقوق الإنسان، وهو ما لم يُعانِ منه دعاةُ الظّلامية والعنف والإرهاب؛ ولكن ما هي الفلسفةُ يا ترى؟ ذاك ما سنراه غدًا..
هلِ الفلسفة قادرة على مقاومة الفكر الإرهابي؟
