محمد فارس
هكذا أخالُ القارئ النّبيه يتساءل، ونحن نُطَمْئنُه بأنّ التاريخ العربي مليء بالمآسي هو كذلك باعتباره تاريخَ بَشَر، قال تعالى في كتابه الحكيم: [وَيَدْعُ الإنسانُ بالشّرِّ، دُعاءَهُ بالخير، وكان الإنسانُ عَجُولاَ] صدق الله العظيم. يعجّ تاريخُ العَرب هو كذلك بالمآسي ممّا لا تَسَعه هذه الرّقعة الضّيقة، ولكنّنا سَنخصّ بالذّكر بعض المآسي قدْرَ الإمكان، وهذه المآسي عانى منها أئِمّةٌ وصُلحاءُ وسنستثْني السّياسيين نظرًا لكثْرتهِم وطُولِ مُعاناتهِم، ولكنّ المؤرّخين يؤَكّدون أنّ هؤلاء الأئِمة كانت مآسيهم سياسية وإنْ صُبِغَت بصبغة الدّين لإخفاء طابعِها السّياسي، وتلكُم حِيَلُ المتسلّطين عبْر التّاريخ لتضليل الناس بألاعيبِهم.. هذه المآسي لا تسمعُونها عبْر الشّاشة، أو في محاضرة، أو حوار، بل تَسمعون شروحًا للمذهب مثلاً ولا تعْرفون ما لاقاه هؤلاء من مِحَن ومُعاناة ومصير شديد السّواد، نحن نسمعكم إيّاه بعْد بحثٍ دقيق في مراجعَ مَوثوقة وتاريخٍ كتبَه مؤرّخون يَحترمون الأمانة العِلمية والصِّدق..
مِحنة [أبي حَنيفة النُّعمان]: كان الإمامُ غيْر راضٍ عن سياسة العبّاسيين، وخصوصًا قَسْوتَهم، وشدّتهُم مع خصومهِم، وكانت المخاصمةُ شديدة وعنيفة مع العلويين، ومن يُظهِر التودّدَ إليهم أو التّرحُّم عليهم.. كان [أبو حنيفة] صريحًا في أجوبتِه، شديدًا في محاسبتِه، كثيرَ النّقد لأحكام القضاة، وتصرُّفات الوزراء والوُلاة، فأدْركَ [المنصورُ أبو جعفر] نَزعةَ الإمام السّياسية والرُّوحية، وهي نزعة لم تنَلْ رضاه، وسلوكُه لا يريده، لذلك فهِمَ [المنصورُ] أنّه ليس من السّهولة أن يُنْزلَ محنةً بالإمام، فصار يلتمِس المبرِّرات التّافهة والذّرائعَ الباطلة لتكون سببًا ظاهريًا لها، وهكذا فإنّ السلطة تعمي البصائر عن رؤْية الحقّ، ومن الأسباب الظّاهرة التي اتّخذها [المنصورُ] كذريعة لـمِحنة [أبي حنيفة] أنّه كان جرّيئًا في بيان خطإ القضاة، وهكذا بدأتِ المحنةُ تدنو منه وهو صابِر مُحتسِبٌ.. استدعى [المنصورُ] [أبا حنيفة] وعرضَ عليه تَولّي القضاء، فامتنع، وهنا حصلَ [المنصورُ] على ما يريده، فأَنزل المحنةَ بالإمام، فكان يُضرب عشَرة أسواط حتى ضُرِبَ عشَرة ومائة سوْط، وكان يُقال له: [اِقْبلِ القضاء]، فكان يقول: [لا أَصلُح]، فلمّا تتابعَ عليه الضّربُ وأبى قَبولَ المنْصب، دَسُّوا له السُّم، فقتلوه.. وبموْته، انتهتْ مِحنتُه، ثمّ تتابعتِ المحَنُ تنْزِل بأقرانِه من أئمّة المسلمين، أَوليس هذا دليلاً على مأساوية تاريخ العرب؟
محْنة [مالك بن أنس]؛ كان ممّا حدَّث به هذا الإمامُ قولُه صلّى الله عليه وسلم: [ليس على مستَكرهٍ طلاق]، وما إنْ نطقَ بهذا الحديث الصحيح، إذا بالألسُن تتداوله ذائعة أَمْرَه حتى شاع وانتشر بيْن الخَلق في المدينة المنوَّرة، ثم أخذتِ التّأويلاتُ لهذا الحديثِ تجري على قدمٍ وساق، كلّ طائفة وجدتْ فيه بُغْيتَها، فالـمُناوئُون لحُكم [المنصور] وجدُوا فيه مستندًا قويّا على التّحلل منَ البيْعة، لأنّها جاءتْ عن طريق الإكراه، إذ ساقوا البيعةَ على الطّلاق: [وليْس على مستكرهٍ بيْعة]؛ وأما الحكّام والولاة فقد وجَدوا في نشْر هذا الحديث خطرًا عليهم وعلى كيانهم، لذلك حاولوا أن يمْنعوا الإمام [مالِك] من التّحدث به، ولكنّه لم يَفعل، وهدَّدوه فلم يَسمعْ، عند ذلك نزلتِ الـمِحنةُ ووقع الأذى، فضربه [المنصورُ] بعد أن رأى هياجَ أهْل المدينة حيث بعثَ إليه برسول ضربه سبعين سَوْطًا، والذي تولّى كبرَ هذه الـمِحنة ونفّذها هو ابنُ عمّ المنصور [جعفر بن سليمان]، وعندما برأ [مالِك] من جراحه، طلب إليه [المنصور] الاجتماع بِمنًى في موسم الحجّ، فقال [مالك]: لـمّا وصلتُ على [أبي جعفر المنصور] قال لي: [والله الذي لا إلاهَ إلاّ هو ما أمرتُ بالّذي كان ولا عَلِمْتُه]، فقلتُ: [عافى الله أميرَ المؤْمنين]؛ قال [ابن قُتَيْبة] في كتابه [الإمامة والسّياسة]: (تلكَ عظَمة [مالِك] من تسامُحِه واحتسابِه السّبعين سوْطًا لله، له بها ثواب الصّابرين، وبهذا انتهتْ محنةُ [مالك] وعاد إلى دروسه وصنّفَ كتابَه [الموطَّأ] بعْد ذلك، ولكنّ الـمِحَن لم تَزلْ قائمة بأصحابه وزُملائِه ومأساوية التّاريخ مستمرّة..
محْنة [أحمد بن حنبل]: في هذه الفقرة سنَتركُ الإمام [أحمد] يتحدّث عن محنتِه: وُجِّهَ إليَّ برجُليْن هما صاحب الشّافعي (عبد الرحمان بن إسحاق) و(غسّان) من أصحاب (ابن أبي دَاوُد) فيُناظراني، فيُقيمانِ معي حتى إذا حضَر الإفطار، وُجِّه إلينا بمائدة عليها طعام، فجعلاَ يأكُلان، وجعلتُ أتعلَّلُ حتى تُرفَع المائدة، وأقاما إلى الغد، وفي خلال ذلك، يَجيء [ابن أبي داوُد] فيقول لي: يا أحمد، ماذا تقول في خلْق القرآن؟ فقلتُ: هو كلامُ الله؛ قال: أَهُو مَخلوق؟ قلت: هو كلامُ الله ولن أَزيد؛ وفي اليوم الثّاني دخلتُ على [الـمُعتصم] فقال: ناظِروه، وكلّموه، فجعَلوا يتكلّمون.. بقيتُ طيلة يوميْن بلا طعام وأنا صائم في رمضان؛ طلَبني [المعتصم] وأنا مثقلٌ بالأقياد، فقلتُ لأحد الحرّاس: أُريد خيطًا، شددتُ به على تُكّة سِروالي خوفًا من أن يَحدُث شيء من أمري فأتعرَّى؛ فجاءني [المعتصم] وهُم يحْدِقون به، فقال: ويْحَك يا أحمد، تَقتُل نَفسكَ؛ ثم قال بعضُهم: يا أميرَ المؤمنين، دَمُه في عُنقي، ثم قال [المعتصمُ] لِلْجلاّد: إدْنه، ثم لم يَزَل يَدعُو جَلاّدًا بعْد جلاّد، فيضربُني سَوْطَويْن ويتَنحّى، وهو يقول: شد، قطع الله يَدَك.. رُوِي عن عُبادة الـمُضْحِك أنّه قال [للواثِق]: أعْظَم الله أجْركَ في القرآن؛ فقال: ويْحَك، أيَمُوت القرآن: قال: كلُّ مخلوقٍ ميّت؛ وفي عهد [المتوكِّل] انتهتِ المحنة.
هَلِ التّاريخُ العربي يخلو من الـمَأساوية كتاريخ؟
