محمد فارس
لو كنتُ من الـمُدمنين على [النت]، لبعَثتُ بهذه التّدوينة إلى الرئيس [بوتين] أُذكرُه فيها بحدثٍ تاريخي عندما قام [ستالين] الذي كان جدّ [بوتين] مجرد طبّاخٍ عنده، بالهجوم على [فنلاندا] بين عامي (1939 ــ 1940)، وكان من شأن [روسيا] أن طالبت [فنلاندا] في أكتوبر عام (1939) بنزع السّلاح في خط [مانرهيم]، وهو ما يشبه اليوم مَطلب [بوتين] تجاه [أُوكرانيا]، كما طالبتْ [روسيا] وقتها [فنلاندا] بالتّنازُل عن بعض الجزر.. دارتْ مفاوضات بين الطرفيْن الرّوسي والفنلاندي، فهاجمتْ [روسيا] الحدودَ الشّرقية الفنلندية، وصدَّ الفنلنديون الرّوسَ وكبّدوهم خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد، وما كان الرّوسُ يتوقّعون ذلك من بلدٍ صغير، فتعاطفَ العالمُ مع [فنلاندا]، وبشقّ الأنفُس، تمكّن الروسُ أخيرًا من إيقاف مقاومة الفنلنديين، وتمّت مفاوضات أدّتْ إلى معاهدة صلح في (12 مارس)، وبموجبِها تنازلتْ [فنلاندا] لِـ[روسيا] عن جزء من برزخ [كايلْيا] و[ڤيبورْج] وبعض الأراضي على الحدود الرّوسية، ولعلّ هذا ما يريده [بوتين] اليوم من [أوكرانيا] لتأمين حدوده الغربية..
لكنْ سرعان ما اسْتُئنفت الحربُ عام (1941) بحملة [بارباروسة] على [روسيا] من طرف [هتلر]، فارتأَت [فنلاندا] بها إمكانيةَ استردادِ الأراضي المفقودة شمال غربي [روسيا] إثر الهجوم النّازي على [روسيا].. وبعد تراجع الجيش الألماني، قامت [روسيا] بهجوم كاسح وشامل واستسلمت [فنلاندا] سنة (1944)، إلى أن وُقّعتْ معاهدة صلح بينها وبين الحلفاء في [باريس] سنة (1947)، وتنازلتْ عن مناطقَ على الحدود الشّرقية والجنوبية بغيْر شرط، وعن [بورْكلا] بإيجار خمسين سنة.. وهذه المآلاتُ هي ما تريده [روسيا] اليوم من [أوكرانيا]، لكنّه لن يتحقّق، ولن تَسمح [أوكرانيا] بفقد شِبْر من أراضيها، وهي تتمتّع بمساندة كافّة دول الغرب، والتّاريخُ لا يُكرِّر أحداثَه إرضاءً للبشر، بل له منطقُه الخاص وهذا ما يجهله [بوتين] حتى الآن.. [أمريكا] تريد دائمًا تدميرَ [روسيا]، ولكنّها تتجنّب الاحتكاك معها، وتفضّل الحربَ بالوكالة لعِلْمِها بأنّه من المستحيل الانتصارُ على [روسيا] في أرضها الشّاسعة والمترامية الأطراف، لذا تبحث دومًا عمّن يقوم بهذه الحرب نيابةً عنها..
غالبًا ما يتحدّث المؤرّخون عن [الحُروب الأوكرانية]، وهي الحروبُ التي تمّت في [أوكرانيا]، وهذا البلدُ جزْء من [أوروبّا] وعاصمتُه [كييڤ]، و[أوكرانيا] تُدْعى كذلك روسيا الصغرى، وفيها أنهار، كنهر [بدج] الجنوبي، و[دينيبْر]، و[دونيتْز]، ولها موانئ على البحر الأسود، وفيها الحديدُ والفحمُ والبترول.. وقد أخضعت [ليتوانيا] بعْد غزْو المغُول [روسيا] هذا البلد، ليكون جزءًا من الدولة البولندية اللّيتوانية آنذاك؛ ثمّ باستيلاء تَتار [القرم] على البحر الأسود مع الضّغط البولندي على فلاّحيها وباتّحاد الكنيسة فيها مع [روما] عام (1596)، أفضى كلّ ذلك إلى ثورة (قُوزاق زابوروزْهي)، الذين استقلُّوا صوريًا.. نشبتْ حربٌ طويلة بين [بولندا] وبين [روسيا] أدّتْ إلى تنازُل [بولندا] لِـ[روسيا] عن شمال شرق [أوكرانيا] بما فيها العاصمة [كييڤ] سنة (1667).. حدثتْ ثورة أخرى للقوزاق تُدعى ثورة (مازيبَا) حدَتْ بالقيصر (بُطرس الأول) إلى إلغاء الاستقلال الصّوري للقوزاق، واستولت [روسيا] عليها بعد ضمِّ [القَرم] سنة (1783) إليها. وفي عام (1918) إثْر الثّورة الشيوعية، أعلن القوميون الأوكرانيون استقلالهم، وبدأتْ حربٌ عام (1920) بين القوميين هؤلاء والجيش الأحمر، والجيش الأبيض، والبولنديين، انتهتْ بسيطرة الجيش الأحمر بقيادة [روتسكي] على [أوكرانيا] بعد مذابح ومجازر دوَّنها التاريخ.. ومنذ ذلك الحين، استمرت مأساةُ الأوكرانيين مع [ستالين]، ومن أبرز نتائج تلك الحرب هو عودة [بولندا] إلى الظّهور على الخريطة كدولة بعدما كانت قدِ اختفت وكانت جزءًا من [أوكرانيا]؛ ومنذ ذلك التاريخ، والأوكرانيون يكنّون العداء للرّوس مثْلهم مثل الشّعوب [non nusses].. وصدق من قال: التّاريخُ يوجد أمامنا، لا خلْفنا؛ وها هو أمامنا تمامًا اليوم..
يذْكر التاريخُ أنّ الأوكرانيين استقبلوا الجيش النّازي بالخبز والـمِلح كرمز لحُسْن الضّيافة، واعتبروهم كمحرّرين لهم من ظلمِ وجَوْر [ستالين]، وهذا ما يومئُ إليه [بوتين] الآن عندما يعْتبِر الأوكرانيين نازيين جددًا، فيحاول أن يصحّحَ التّاريخ كما قال ديكاتورٌ عربيٌ منذ أيام، ولكنّ التاريخَ لا يُصحَّح كما تُصحّح ورقةُ امتحان كما قال [فرانسوا مورياك]، لقد شعر [بوتين] بأنّ [روسيا] أصبحت دولة لا وزنَ لها ولا تأثيرَ في الموقف الدّولي، فأرادَ إثباتَ وزن [روسيا]، فكان لابدّ من هذه الحرب لكي يَحصُل على الأثر المرجو، ويُرغم [أمريكا] و[أوروبا] على القَبول بواقع وجود دولة قويّة اسمُها [روسيا]، فوقَع الاختيار على [أوكرانيا] نظرًا لِـما لها من شأْن في [أوروبا] وفي النّظرة الأمريكية مهْما كانت التّكلفة والتّداعيات، فهل أحْسَن [بوتين] التّصرف؟ ذاك ما سيجيب عنه التّاريخ وتؤكّده الأحداثُ لاحقًا..