فقدت الإنسانية أحد أبرز رموز الحوار والسلام، مع وفاة البابا فرنسيس عن عمر ناهز 88 عاماً. برحيله، تطوى صفحة بابا تميز بجرأته في المواقف، وتواضعه في السلوك، وقدرته على تجسيد قيم الرحمة والانفتاح.
البابا فرنسيس، الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية، لم يكن مجرد زعيم ديني تقليدي. فقد رفض الإقامة في القصور البابوية، وفضّل أن يعيش بين الناس، وأن يخاطب وجدانهم قبل أن يخاطب مناصبهم. وبين محطات كثيرة في مسيرته، برزت زيارته إلى المغرب عام 2019 كحدث استثنائي في العلاقات بين الفاتيكان والعالم الإسلامي.
زيارة الرباط: لحظة فارقة
في 30 مارس من عام 2019، استقبل المغرب البابا فرنسيس في زيارة رسمية وراعوية بدعوة من الملك محمد السادس. استمرت الزيارة يومين، وشكلت مناسبة للتأكيد على قيم الحوار بين الأديان، وتعزيز التفاهم بين الشعوب، في زمن بات فيه التعايش مهدداً.
خلال خطابه في ساحة مسجد حسان في الرباط، قال البابا: «أتيت حاجًا للسلام والأخوة، إلى أرض تُعرف بكونها جسرًا بين إفريقيا وأوروبا، وبين الشرق والغرب». وتلك الكلمات عكست روح الزيارة التي تجاوزت طابعها البروتوكولي، لتشكل محطة بارزة في سجل الحوار الإسلامي – المسيحي.
وأمام الملك محمد السادس، أمير المؤمنين، وقع البابا نداءً مشتركًا بشأن القدس الشريف، دعا فيه إلى صون طابع المدينة المتعدد الديني والثقافي، بما يجعل منها مركزًا للسلام والتعايش.
النداء لم يكن مجرد وثيقة رمزية، بل دخل سريعًا في صلب النقاش الدبلوماسي الدولي بشأن مستقبل المدينة المقدسة، وشكّل خطوة غير مسبوقة جمعت بين زعيمين روحيين يتمتعان بثقل معنوي كبير.
إعجاب متبادل وتجربة متميزة
أعرب البابا فرنسيس، خلال زيارته، عن تقديره العميق للسياسة الدينية في المغرب، والتي يقودها الملك محمد السادس. وأشاد بالمعهد الملكي لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، واصفًا إياه بأنه نموذج لإسلام منفتح ومستنير، قادر على مواجهة الفكر المتطرف بالحوار والمعرفة.
وفي كلمة ألقاها داخل المعهد، قال البابا: «العالم الإسلامي بحاجة إلى تكوين كهذا… فالتطرف لا يُهزم إلا بالمعرفة، والجهل لا يُواجه إلا بالحوار».
كما ترأس البابا قداسًا كبيرًا في مجمع مولاي عبد الله، حضره آلاف المسيحيين المقيمين في المغرب، وتوجه فيه برسالة وحدة إلى المسلمين والمسيحيين معًا، مؤكدًا أن “الاختلاف لا يجب أن يكون سببًا للصراع، بل مناسبة للتكامل”.
أثر ممتد في الذاكرة المغربية
زيارة البابا فرنسيس للمغرب لم تمر دون صدى. فقد اعتبرتها الصحافة المغربية حدثًا استثنائيًا، وخصصت لها تغطية شاملة، انطلاقًا من رمزيتها الدينية والسياسية. ووصفت بعض الصحف الزيارة بأنها «رسالة إلى العالم من أرض التعايش».
وسلطت التحليلات الضوء على ما أسمته «الرهان المغربي على البُعد الروحي في السياسة الخارجية»، واعتبرت أن المغرب نجح في تقديم نفسه كفاعل موثوق في قضايا محاربة التطرف، ليس فقط من الجانب الأمني، بل من الزاوية الفكرية والدينية أيضًا.
أما على المستوى الدولي، فقد أشاد مسؤولون في الفاتيكان بالزيارة، مؤكدين أنها كانت من أبرز محطات البابا خارج أوروبا، وأن المغرب قدم نموذجًا يحتذى به في استيعاب التنوع الديني والاحترام المتبادل.
إرث باقٍ
رحيل البابا فرنسيس يشكل خسارة كبيرة للكنيسة الكاثوليكية ولعالم يبحث عن التوازن في ظل تصاعد النزاعات. لكن حضوره سيظل قائمًا في ذاكرة المغاربة، بوصفه رجلًا حمل رسالة سلام، واختار أن يجعل من الرباط محطة حوار، لا ساحة تنازع.
لقد غادر البابا الحياة، لكن صورته وهو يقف إلى جانب العاهل المغربي، موقعًا نداء القدس، ستبقى حاضرة كرمز نادر للقاء بين الشرق والغرب، في زمن يحتاج إلى مثل هذه الجسور أكثر من أي وقت مضى.