شهدت الأسرة المغربية، كغيرها من مكونات المجتمع، تحولات جذرية على مدى العقود الماضية، حيث انتقلت من نموذج تقليدي قائم على الهيكلية الممتدة والنظام الأبوي، إلى نموذج أكثر انفتاحًا يعكس التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي مر بها المغرب منذ الاستقلال.
1958: البداية مع مدونة الأسرة الأولى
في عام 1958، خطا المغرب أولى خطواته نحو تحديث المنظومة التشريعية المتعلقة بالأسرة بإصدار أول مدونة للأسرة، أو ما يعرف بـ”المُدوَّنة”. جاءت هذه الخطوة في سياق استعادة السيادة الوطنية تحت قيادة الملك الراحل محمد الخامس، لتشكل بذلك انطلاقة جديدة نحو تعزيز الحقوق الأسرية وتنظيمها في إطار مستمد من تعاليم الإسلام والفقه المالكي.
لكن هذه المدونة الأولى كانت متأثرة بالنظام الأبوي السائد آنذاك، حيث ركزت بشكل كبير على الدور المركزي للرجل في الأسرة، مع تقليص واضح لدور المرأة في الحياة الأسرية والعامة، مما أثار جدلاً بين دعاة التحديث والحفاظ على التقاليد.
تحولات مستمرة: بين التقاليد والحداثة
مع مرور السنوات، تغيرت الأسرة المغربية بشكل ملحوظ. فبحلول الألفية الثالثة، أظهرت التحولات الاقتصادية والاجتماعية حاجة ملحة لإعادة النظر في المنظومة القانونية التي تحكم الأسرة. كانت هناك زيادة ملحوظة في مشاركة المرأة في الحياة العامة، وارتفاع في نسب التعليم والعمل بين النساء، مما أدى إلى تراجع نمط الأسرة الممتدة لصالح الأسرة النووية.
2004: قفزة نوعية في مدونة الأسرة
شكلت مراجعة مدونة الأسرة في عام 2004 منعطفًا هامًا في تاريخ التشريع الأسري بالمغرب. تحت قيادة الملك محمد السادس، عكست هذه الإصلاحات التزام المغرب بتعزيز المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية، مع احترام القيم الإسلامية. شملت التعديلات تحسين وضع المرأة، وضمان حقوق الطفل، وتقنين الطلاق، مما ساهم في بناء نموذج أسري أكثر توازنًا واستدامة.
2024: إصلاحات جديدة لاستكمال المسيرة
في عام 2024، يواصل المغرب جهوده في تحديث التشريعات الأسرية لتتماشى مع التحولات المجتمعية المعاصرة. تم الإعلان عن تعديلات جديدة تهدف إلى تعزيز المساواة والعدالة في العلاقات الأسرية، مع مراعاة القيم الثقافية والدينية للمجتمع المغربي. هذه الإصلاحات تأتي في إطار رؤية شاملة تهدف إلى تطوير المنظومة التشريعية لتصبح أكثر توافقًا مع متطلبات العصر، دون الإخلال بالهوية الوطنية والدينية.
الأسرة المغربية بين تحديات الحاضر وآفاق المستقبل
تعكس التحولات التي شهدتها الأسرة المغربية قدرة المجتمع على الموازنة بين التقاليد والحداثة. وعلى الرغم من التحديات التي تواجهها الأسرة المغربية اليوم، مثل التفكك الأسري والضغوط الاقتصادية، فإنها تظل ركيزة أساسية للتنمية الاجتماعية والثقافية.
ختامًا، يظهر التاريخ الطويل للإصلاحات الأسرية في المغرب أن الأسرة ليست مجرد وحدة اجتماعية، بل هي مرآة تعكس دينامية المجتمع وقدرته على التكيف مع التغيرات، في مسار يربط الماضي بالمستقبل تحت مظلة رؤية إصلاحية شاملة.