*أحمد الدرداري : رئيس المركز الدولي لرصد الأزمات واستشراف السياسات،استاذ جامعي لقد تغير التفكير السياسي الرسمي في المغرب منذ 1999، حيث بدأ بمراجعة الأخطاء والتراكمات السلبية التي لم تكون تعبر عن التناغم بين النظام السياسي والنظام الدستوري، والذي عرفت الديمقراطية والتنمية والمسؤولية في ظله صراعا تم الحسم فيه بالتوافق السياسي وبالمصالحة والعفو كوجهين للانتقال السلمي نحو المفهوم المرن لممارسة الحرية والتداول السلس للسلطة. ويطرح من جانب آخر موضوع العفو الاقتصادي والمصالحة النموذجية علاقة بالدستور الذي ينص في الفصل 35 على مايلي: “يضمن القانون حق الملكية. ويمكن الحد من نطاقها وممارستها بموجب القانون، إذا اقتضت ذلك متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. ولا يمكن نزع الملكية إلا في الحالات ووفق الإجراءات التي ينص عليها القانون. تضمن الدولة حرية المبادرة والمقاولة، والتنافس الحر، كما تعمل على تحقيق تنمية بشرية مستدامة، من شأنها تعزيز العدالة الاجتماعية، والحفاظ على الثروات الطبيعية الوطنية، وعلى حقوق الأجيال القادمة. تسهر الدولة على ضمان تكافؤ الفرص للجميع، والرعاية الخاصة للفئات الاجتماعية الأقل حظا”. فالملكية الاقتصادية محدد أساسي للمواطنة النموذجية، ووجود تفاوت كبير في التملك يضر بباقي التوازنات الاخرى السياسية والاجتماعية، لذا يطرح موضوع العفو الاقتصادي والمصالحة الاقتصادية في سياق تدبير الأزمات المتعددة الاوجه وذات الصلة بالواقع والتي يتخبط فيها المجتمع المغربي، بالرغم من الإصلاحات التدريجية التي صار عليها المغرب منذ الاستقلال الى اليوم. ان ما بدأت به الملكية الثالثة او ما يسمى العهد الجديد هو احتضان صراع الأضداد التي تميزت به مشاريع الإصلاحات، مما ميز النظام السياسي المغربي المعاصر عن سابقه خصوصًا تدارك حقوق ضحايا سنوات الرصاص وضحايا الأحكام القضائية الجنائية الذين كان الواقع والمجتمع من وراء صناعتهم، فطرح العفو الجنائي الذي ركز بشكل أساسي على العفو عن السجناء في مناسبات وطنية ودينية، وهذا ما يميز فلسفة نظام الحكم الدينية والأخلاقية والثقافية والتاريخية في المغرب. معلوم ان الملكية الثالثة تميزت بمفاهيم ورؤية واستراتيجية مختلفة عن ملكية التحرير (الاولى ) وملكية بناء الدولة (الثانية)، ذلك ان المصالحة الوطنية بدأت بالتوافق السلمي الديمقراطي لإعادة بناء المشترك في الدولة، وتتحمل على اثره كل المؤسسات مسؤولية أداء المهام والإسهام في تحقيق العدالة والتكافؤ والمواطنة و ترسيخ مبدأ دولة المؤسسات، واستكمال مشروع المصالحة المستدامة والمتعددة الابعاد والتركيز على التماسك الاجتماعي. ان التدبير الاستراتيجي لسياسات الإصلاح والمصالحة والعفو تجد سندها في مقاربة العفو الجنائي المتبعة حسب ظهير 1-57- 387 والذي تم تحيينه بتاريخ 26 اكتوبر 2011 والذي ينص في الفصل الأول على انه يرجع النظر الى الملك في العفو قبل تحريك الدعوى العمومية او خلال ممارستها او بعد الحكم بعقوبة نهائية. ولا يشمل العفو الغرامات بطلب من الإدارة العمومية ( الفصل الرابع). ولا يجري العفو على تدابير الأمن العينية، ولا يجري على الأشياء المصادرة التي بوشر توزيعها. (الفصل الخامس). واذا أعفي أحد من أداء غرامة وهو في الاجبار بالسجن، فان هذا الإعفاء يكون من شأنه ان يخفض مدة السجن الى المدة القانونية التي تطابق عند الاقتضاء مدة المخالفات الاخرى التي استوجبت السجن (الفصل السادس). ويشمل العفو الفرد والجماعة، فيصدر العفو إما مباشرة وإما بطلب من المحكوم عليه أو من أقربائه أو أصدقائه ومن النيابة العامة أو إدارة السجون، أما العفو الجماعي فيصدر بمناسبة عيد الفطر وعيد الاضحى والمولد النبوي. وعيد العرش (الفصل الثامن). وتؤسس لجنة العفو وتكلف بدراسة المطالب الملتمس فيها العفو من قضاء العقوبات وكذا الاقتراحات التي تقدم تلقائيًا لهذه الغاية ( الفصل التاسع). وتتكون اللجنة من وزير العدل او مفوضه والمدير العام للديوان الملكي أو مفوضه، والرئيس الأول لمحكمة النقض أو ممثله، ثم الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض أو ممثله، ومدير القضايا الجنائية والعفو أو ممثله، ومدير إدارة السجون أو ممثله، بالإضافة الى ضابط من الأركان العامة للقوات المسلحة الملكية يعينه وزير الدفاع، اذا كانت العقوبات صادرة عن المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية، ويتولى الكتابة. موظف تابع لوزارة العدل. ويقوم وزير العدل بتنفيذ ما يأمر به الملك.(الفصل العاشر). هذه الاستراتيجية اقترنت في فكر الملكية الثالثة باستراتيجيات جديدة تتمثل في أوراش المصالحة الكبرى تنم في بعض جوانبها عن استحضار إعمال العفو غير المباشر لاسيما حينما ترتبط الأسباب بوجود علاقة الدولة غير المباشرة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، عكس السياسة الجنائية التي يتم تدبير ملفات العفو طبقًا للظهير الخاص بالعفو الجنائي. ففي المجال السياسي تم احداث مصالحة وطنية شجاعة تحسب للملكية الثالثة رغم تعقيد الحلول، حيث تم احداث هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، وذلك لمساعدة ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والتعويض عن التعذيب والاعتقالات التعسفية عقب فترة الاستقلال الى حدود سنة 1999. حيث تم النظر في 20000 حالة وتم رفع التقرير النهائي للملك 2005. وفي هذا السياق سبق على عهد الحسن الثاني أن تفاعل مع انتفاضة 1988 بمخيمات البوليساريو فأطلق مبادرة الوطن “غفور رحيم”، لمن يريد إنهاء المعاناة والعودة الى الوطن وكرر الملك محمد السادس المبادرة نفسها معلنا ان الحكم الذاتي هو أقصى ما يمكن ان يقدمه المغرب من أجل إنهاء النزاع المفتعل. وفي المجال الاجتماعي صدر مؤخرا قانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية وهو بمثابة مصالحة اجتماعية وعفو عن فئات اجتماعية كبيرة كانت محكومة بأن تبقى بدون تغطية اجتماعية، وتغير القرار الذي أحدث الثورة التي تستجيب لكل النقائص التي تتعلق ببنية المجتمع المغربي، ذلك أن الأوراش الكبرى التي اطلقها جلالة الملك والمتمثلة في ورش الانعاش وإصلاح القطاع العام، ورش تعميم التغطية الاجتماعية، ورش تعميم التغطية الصحية، ثم ورش التعويض عن فقدان الشغل. وعليه تطرح مصالحة في المجال الاقتصادي حيث يتعلق الامر بسريان منطق العفو والمصالحة على باقي المجالات الاخرى على الحياة الاقتصادية مع غالبية المواطنين سواء الذين يعيشون في القرى والبوادي او هوامش المدن وحتى بالنسبة للشباب حاملي الشواهد والمستعصي عليهم ولوج سوق الشغل وتسهيل تملكهم المادي بما يسمح لهم بتحديد مكانتهم ضمن الحياة العامة والاعتراف لهم بقيمة المواطنة كسائر الأشخاص الذين يملكون، مادامت الأملاك هي المحدد الحقيقي لقيمة الأفراد في الدولة والمجتمع . فالعفو الاقتصادي يقتضي اعفاء المحكوم عليهم في بعض القضايا من اداء الغرامات لاسيما المعسرين، وأيضا الإعفاء من الضرائب التي لا يقوى المضرب على تأديتها والإعفاء عن الأموال التي يمكن ان تتحول الى مشاريع تنموية لفائدة المجتمع والوطن، مثل أموال المهربين، والمصالحة مع الأجراء وإخراجهم من الضغوطات و إبقاء الأجير في مستوى أقل قيمة من مثيله في الدول المتقدمة، ذلك ان العفو الاقتصادي هو السبيل الوحيد لمصالحة نموذجية وعميقة، لاسيما وان المغرب حقق مصالحات مهمة سياسية ويعمل بالعفو الجنائي اضافة الى المصالحة الأمنية والإدارية من خلال المفهوم الجديد للسلطة، بالإضافة الى المصالحة الاجتماعية التي أبانت عنها جائحة كورونا والتدابير التي اتخذتها الدولة في شكلها التضامني من خلال احداث صندوق التكافل لمواجهة آثار جائحة كورونا و حملة التلقيح المجانية ضد الفيروس التي تحملت الدولة تكلفتها المادية. وتوسيع مفهوم العفو الاقتصادي والمصالحة النموذجية يمتد الى زراعة القنب الهندي التي كانت محاطة بالقانون الجنائي وكلفت الفلاحين وابنائهم خسارة مادية ومعنوية لارتباطها بمنطق إنقاذ الحياة ماديا من جهة المواطن ومنطق إعمال القانون الجنائي في الزراعة المحظورة من جهة الدولة، وهذا التوجه الجديد يعكس توسعا مهما في مفهوم العفو الاقتصادي والاجتماعي بالإضافة الى المصالحة الإدارية والأمنية وتبعاتها النفسية والعائلية والانتقال من الممنوع الى المرخص ومن الظلم المركب الى العفو والتقنين وتحسين مفهوم المواطنة باعتماد مصالحة نموذجية في شتى المجالات .