من فگيگ إلى إميدر، ومن ورزازات إلى زاكورة، يتكرر المشهد ذاته: الأرض تتشقق، الآبار تنضب، والقلق يثقل صدور الأهالي.
مشهد لا يعكس فقط أزمة مياه، بل فشلًا متراكمًا في السياسات المائية التي استنزفت المورد الأهم في بلد يعاني أصلًا من هشاشة مناخية مزمنة.
في المقابل، وعلى بعد مئات الكيلومترات من القرى المتعطشة، تواصل الحقول المغطاة في ضواحي مراكش والعرائش ضخ مياهها عبر أنظمة تنقيط متطورة، لإنتاج محاصيل “فاخرة” موجهة إلى موائد المستهلك الأوروبي: توت أزرق، أفوكادو، وبطيخ يلمع في الأسواق الفرنسية.
MIPA يدق ناقوس الخطر: ما يسمى بـ”التحول الأخضر” ليس إلا واجهة
المعهد المغربي لتحليل السياسات (MIPA) لم يكتف بالتحذير، بل وضع الإصبع على الجرح في تقريريه الأخيرين، واصفًا السياسات المائية الحالية بأنها “وهم تنموي” لم يعد قابلاً للاستمرار.
في تقريره المعنون “العدالة المائية في المغرب”، ينسف المعهد فكرة “النمو الزراعي غير المحدود” في بلد يعاني من شح مزمن في المياه.
ويذهب أبعد من ذلك حين يتحدث عن “خصخصة الماء” من خلال سياسات تُفضّل المستثمرين الزراعيين الكبار على حساب الساكنة المحلية.
إرث الستينيات… حين بُني الحلم على السدود
منذ الستينيات، اعتمد المغرب نموذجًا مائيًا يعتمد على بناء السدود الكبرى واستصلاح الأراضي القاحلة للزراعة.
لكن هذا النموذج، الذي بدا ناجحًا في بداياته، لم يصمد أمام الواقع المناخي المتغير. فمع توالي سنوات الجفاف، وازدياد الطلب على المياه بسبب الزراعات التصديرية، انهارت المعادلة، ليجد المغرب نفسه أمام أزمة بنيوية حقيقية.
أطفال يمشون لكيلومترات… وفواكه تُصدّر بالمجان المائي
ما يزيد من حدة المفارقة أن المناطق الأكثر عطشًا اليوم هي نفسها التي تروي خضار وأسواق العالم. أطفال يسيرون لعدة كيلومترات لجلب دلو ماء، بينما يُروى البطيخ بأحدث تقنيات الري ويُنقل إلى أوروبا عبر سلاسل تبريد حديثة.
الانتقال المائي العادل… مجرد شعار؟
المعهد دعا إلى “تغيير جذري” في طريقة تدبير الماء، يبدأ بإعادة ترتيب الأولويات: من استهلاك رأسمالي إلى تدبير عادل.
ومن دعم الزراعات التصديرية إلى حماية الحق في الماء كحق إنساني ودستوري.
فالتحول الأخضر الحقيقي لا يمكن أن يقوم على استنزاف الحياة من الأرض والناس، بل على عدالة توزيع الموارد، والاعتراف بأن الماء ليس سلعة، بل حياة.