أثار مشروع دمج الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي موجة جدل واسعة، بعد أن عبرت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل عن رفضها التام لهذا القرار الذي وصفته بـ”الخطير والاستراتيجي”، محذرة من تداعياته الاجتماعية والمهنية على فئات واسعة من المجتمع المغربي، ورافضة الطريقة التي تم بها تمرير المشروع داخل قبة البرلمان، دون أدنى احترام لمبدأ الحوار الاجتماعي ولا التشاور مع النقابات الأكثر تمثيلية.
وخلال مناقشة مشروع القانون المتعلق بالتأمين الإجباري الأساسي عن المرض، أكدت مجموعة الكونفدرالية بمجلس المستشارين، أن المشروع المعروض لم يحترم روح الحوار الاجتماعي الحقيقي، وضرب في العمق مبدأ التشاركية، الذي يعتبر ركيزة أساسية في بلورة السياسات العمومية ذات الطابع الاجتماعي، وخاصة تلك التي تمس الأمن الاجتماعي والصحي لشرائح عريضة من المغاربة.
وشددت الكونفدرالية على أن الحكومة تجاهلت مخاوف ومطالب المواطنين والمستخدَمين، وفضلت المضي في تمرير مشروع قانون له أبعاد استراتيجية عميقة، دون إشراك حقيقي للشركاء الاجتماعيين، وهو ما اعتبرته تنكرا صريحا للالتزامات التي وقعتها الحكومة في إطار اتفاق 30 أبريل 2022.
و انتقدت الكونفدرالية الطابع الفجائي والإقصائي الذي وُضع فيه مستخدمو “كنوبس”، والذين وجدوا أنفسهم أمام مستقبل مهني واجتماعي غامض، مشيرة إلى أن المشروع لا يتعلق فقط بتعديل تقني في تدبير التغطية الصحية، بل هو قرار من شأنه أن يعصف بحقوق ومكتسبات آلاف الموظفين، والمتقاعدين، والطلبة، والمستخدمين وأسرهم.
وقدّمت النقابة 16 تعديلاً جوهرياً على المشروع، أكدت أنها لا ترمي من خلالها إلى تحقيق مكاسب إعلامية أو خوض مزايدات سياسية، بل تسعى لضمان الحد الأدنى من العدالة القانونية والوظيفية، إلا أن الحكومة، بحسب ما جاء في بيان الكونفدرالية، تعاملت مع هذه التعديلات بموقف “جامد وغير متفاعل”، حيث رفضت 90% منها، ولم تقبل سوى ببعض التعديلات الشكلية التي لم تمس جوهر الإشكالات المطروحة.
و طالبت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل الحكومة بإعادة طرح المشروع على طاولة الحوار الاجتماعي الجاد والمسؤول، مشددة على ضرورة الالتزام بالاتفاقات الموقعة مع الشركاء الاجتماعيين، وصون الثقة في المؤسسات، بما يحفظ حقوق المواطنين ويضمن الشفافية والعدالة في تدبير منظومة التغطية الصحية.
وحذرت النقابة من أن تمرير مثل هذا المشروع التشريعي دون توافق اجتماعي موسع، سيجعل فئات واسعة من المواطنين تدفع الثمن، معتبرة أن ممثلي الشعب من المفترض أن يظلوا صوتاً حراً ومدافعاً عن الحقوق والمكتسبات، لا أن يتحولوا إلى أدوات لتنفيذ قرارات غير توافقية.
وتأتي هذه الانتقادات في سياق أوسع يعكس الأزمة البنيوية التي تعرفها منظومة الحماية الاجتماعية والتقاعد في المغرب. فصناديق التقاعد، وعلى رأسها الصندوق المغربي للتقاعد (CMR) والنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد (RCAR)، تعاني منذ سنوات من اختلالات مالية خطيرة تهدد استدامتها.
وحسب تقارير صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، فإن صناديق التقاعد تواجه شبح الإفلاس خلال السنوات القادمة، إن لم تتخذ إصلاحات جذرية وشاملة. ويُتوقع أن يعرف الصندوق المغربي للتقاعد عجزاً مالياً يتجاوز 60 مليار درهم في أفق 2030، إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه. ويعود ذلك أساساً إلى ارتفاع النفقات، مقابل محدودية الموارد، وتقلص عدد المنخرطين مقارنة بعدد المستفيدين، ما يخلّ بالتوازن المالي للنظام.
ورغم هذه المؤشرات المقلقة، فإن الحكومة لم تقدم لحد الآن رؤية واضحة وشاملة لإصلاح أنظمة التقاعد، مكتفية بإجراءات جزئية أو ترحيل الأزمات، دون إشراك فعلي للفرقاء الاجتماعيين في وضع استراتيجية طويلة الأمد تُؤمّن معاشات المتقاعدين وتضمن حقوق الأجيال القادمة.
و تُجمع العديد من الهيئات النقابية والاقتصادية على أن أي إصلاح حقيقي لمنظومة التقاعد والحماية الاجتماعية بالمغرب لا يمكن أن ينجح دون إشراك فعلي وحقيقي للنقابات وممثلي المستخدمين، ودون حوار اجتماعي جاد وشفاف يُفضي إلى تعاقد اجتماعي جديد يُعيد الثقة للمواطنين في مؤسساتهم، ويُحقق توازناً بين متطلبات الإنصاف الاجتماعي وضرورات الاستدامة المالية.
وبينما تسارع الحكومة لتمرير قوانين حساسة تمس الطبقات المتوسطة والضعيفة، فإن غياب رؤية شاملة يثير قلقاً متزايداً بشأن مستقبل الحماية الاجتماعية في البلاد، ويطرح تساؤلات ملحة حول أولويات السياسات العمومية، وجدوى استمرار تغييب النقابات عن مراكز اتخاذ القرار.