سانت بيترسبورغ – إدريس عدار
ليس الإنسان وحده فقط يشد الرحال نحو البلاد البعيدة. كل الكائنات التي فيها حياة تتحرك أو يتم تحريكها نحو آفاق أخرى. كما تجاور الإنسان رغم اختلاف المولد والنشأة تتجاور في معهد عموم روسيا للموارد الوراثية النباتية “نيكولاي فافيلوف” بسانت بيترسبورغ بروسيا. ضمن آلاف أنواع البذور والنباتات، التي يتم تخزينها بعناية فائقة، تسكن بذور ونباتات مغربية “هاجرت” إلى هذا المكان البعيد.
بذور تعتبر اليوم جزء من الإرث الغذائي الإنساني، الذي عمل المعهد المذكور على الحفاظ عليها. فضّل العلماء في هذا المعهد الموت جوعا على أن يسمحوا في ضياع هذا المخزون التراثي الذي اختار له أصحابه أن يؤرخ لتاريخ “الأكل” و”الحياة النباتية” على وجه الأرض.
سنبلات من الشوفان المغربي يعود تاريخها إلى سنة 1925، ما زالت محفوظة بعناية رائعة داخل هذا المعهد. إلى جانب الشوفان المغربي توجد حوالي 14 ألف نوع من الشوفان من كل أنحاء العالم. كل هذا العدد الهائل يمثل تنوع الحياة وأسبابها على وجه الأرض. أصناف اندثرت وأخرى ما زالت مستمرة. ما اندثر منها يقوم المعهد بإعادة زراعة نموذج منه
المعهد يعمل على إنجاز أبحاث حول الموارد الوراثية النباتية، ومن يتوصل إلى معرفتها يعرف كيف تعيش هذه النباتات. يقرأ تاريخ النباتات العلمي. كيف تتطور وكيف تعيش وكيف أصبحت وما هي العوامل المؤثرة في استمرارها؟
في المعهد عثرنا على سنابل من الشوفان محفوظة بشكل دقيق وهي على مدخل مختبر الحماية تجاور مثيلاتها لبعض الدول.
ويذكر أن معهد عموم روسيا للموارد الوراثية النباتية “نيكولاي فافيلوف” شهد زيارة لوفد من ثمانية صحفيين يمثلون وسائل إعلام مختلفة من إفريقيا كان من بينها “النهار المغربية”، نظمته الوكالة الفيدرالية لشؤون رابطة الدول المستقلة والتعاون الإنساني الدولي للاتحاد الروسي”Rossotrudnichestvo”، كان في استقبال ضيوف روسيا نائبة رئيس المعهد التي قدمت بعبارات فخر أن هذا الذي يعتبر عمره الحقيقي حوالي 130 سنة، وعمره الواقعي بعد تجديده وتفعليه حوالي قرن، متحدثة عن أهمية المعهد في الحفاظ على ذاكرة البشرية النباتية.
واعتبرت أن الجولة تأتي للتأكيد على أهمية الحبوب والنباتات في ضمان الحياة البشرية، كما يلعب البحث حول النباتات والحبوب دورا مركزيا في تأمين الغذاء للبشرية، ويدخل ذلك في إطار بحث روسيا الاتحادية عن حماية السيادة الغذائية بالتعاون مع دول في أخرى في العالم.
وقالت بكامل الوثوق إن كل قطعة من الخبز في العالم، وكل قطعة كعك موضوعة فوق موائد الناس مرتبطة برحلات البروفيسور الروسي نيكولاي فافيلوف إلى بلدان كثيرة من العالم. وامتدت رحلته في دول المغرب الكبير ثلاث سنوات تم تبعتها رحلات أخرى إلى مملكة أبيسينيا (إثيوبيا الحالية).
سألت “النهار المغربية” نائبة رئيس المعهد عن مسار الرحلة التي أنجزها فافيلوف إلى المغرب، وبعد البحث لم نعثر على صور له في المنطقة، وأكدت أن كتابه عن رحلاته إلى القارات الخمس تتوفر فيه كل الصور والكتابات التي وقّعها في تلك البلدان، لكن عثرنا بعد البحث على خارطة تبين المسار الذي قطعه من المغرب تم الجزائر فتونس ولوحة مكتوب عليها رحلة فافيلوف إلى المغرب والجزائر وتونس من 1925 إلى 1927.
ومن أنواع النباتات التي حملها فافيلوف معه من المغرب، نوع من البطيخ يسمى في اللغة العربية “الشمام”. كما عثرنا على ورقة بخط يد نيكولاي فافيلوف كتب فيها “بطيخ مغربي..وتحتها توقيعه سنة 1925”.
وكان نيكولاي فافيلوف قد أحضر بذور النباتات التي ستصبح فيما بعد أكبر مجموعة في العالم.
لقد وضع فافيلوف أسس مكتبة للثقافة الزراعية، أو ما يسميه القائمون على المعهد بنك الجينات.
وقالت جوليا أوخاتوفا، نائب رئيس المعهد للشؤون العلمية والتنظيمية، في كل أنحاء العالم الآن يتم اعتماد طريقة نيكولاي فافيلوف لتنسيق وجمع وحفظ البذور والنباتات وبذور النباتات. واطلعنا خلال الجولة الصحفية على الكيفية التي تتم بها حاليا دراسة الموارد الوراثية النباتية عبر استخدام آليات وتقنيات ومعدات حديثة.
وأضافت “فافيلوف علّمنا كيفية تجديد مجموعات البذور النباتية بانتظام بعينات جديدة” مؤكدة أن المعهد يرسل طلبة باحثين في رحلات استكشافية على طول طرق فافيلوف، بما في ذلك المغرب وكل دول إفريقيا وغيرها.
وكتب على سنبلات القمح المغربية، التي كتب لها الرحلة إلى سانت بيترسبورغ وتعيش إلى يوم الناس، “مجموعة القمح رقم 16409″، وعليها توضيحات بخط يد فافيلوف كتبها أثناء إقامته في المغرب، التي لم نعثر لها على صور رغم بحث في جنبات المعهد وأرشيفه.
لكن أجمل ما هو موجود أن سنبلات الشوفان المغربي توجد معلقة هي الأولى على مدخل بنك البذور في معهد فافيلوف.
وقبل الوصول إلى المكتب التذكاري للعالم الروسي البروفيسور فافيلوف توجد لوحة مكتوب عليها “المجد الأبدي” تحمل صور تسعة علماء من بين 12 عالم كانوا حينها بالمعهد، قضوا بالجوع خلال الحرب العالمية الثانية إثر حصار هيلتر لمدينة لينينغراد (الاسم السابق لسانت بيسترسبورغ).
لم ينقلوا بالرصاص ولا تهدم عليهم المعهد ولكن حماية لبنك البذور عملوا على ألا تضيع. وكان بإمكانهم توفير طعام من كميات البذور التي توجد بين أيديهم. ليس حكاية ولكن كل شروط تحويل البذور إلى طحين والبقاء على قيد الحياة.
واحد من هؤلاء العلماء مات وهو يقبض على حفنة من القمح، في دلالة على حرصه على الموت جوعا ونقل الخبرة البشرية النباتية والزراعية إلى الآخرين بدل أن يبقى على قيد الحياة. والصور الباقية لموظفين حملوا السلاح دفاعا عن وطنهم.
وقد حاول الغرب تشويه صورة فافيلوف، ليس بحثا عن الحقيقة بل لنزع أية فضيلة لروسيا في حماية ذاكرة البشرية النباتية، وقد زعم باحث أمريكي يسمى غروفر فور بترجمة ما أسماه مقاطع من التحقيق مع العالم الروسي المذكور في كتاب تحت عنوان “أدلّة على تعاون ليون تروتسكي مع ألمانيا واليابان”، لكن كل ما تراه من أبحاث وتضحيات تجعل من هذه الأفكار مجرد فرضيات تهدف “تمنيات” الدعاية الغربية، التي قامت على تشويه صورة الآخر.
وإذا كان الحاضر شاهدا على الماضي فإن العديد من القضايا التي تقع أمام أعيننا اليوم تقوم وسائل الإعلام الغربية بتزويرها وتحريفها قصد التأثير على الرأي العام مما يدفعنا للاحتياط حول فرضيات الكتاب المذكور، وهذا ما كشفته فرانسيس ستونر سوندرز في كتابها “الحرب الثقافية الباردة..من دفع للزمار” المبني على وثائق مفرج عنها قامت بشرائها من وكالة المخابرات الأمريكية.
وقام الوفد بزيارة المكتب التذكاري لنيكولاي فافيلوف وتعرفوا على مقتنياته، حيث تضم صورا تؤرخ لحياته العلمية كما يضم المكتب مجسما له.
وأوضحت نائبة رئيس المعهد أن فك رموز أجزاء الجينات وجينوم المواد النباتية وقراءة تاريخها يساعد على استخراج معلومات دقيقة عن النباتات، وحتى عن أماكن زراعتها، كما يمكننا معرفة ما إن كانت محلية أم مجلوبة من مكان آخر من العالم، وإذا كانت هناك الدراسات المقارنة في مجالات علمية أخرى فإن هناك الدراسات المقارنة في مجال النباتات والبذور وبتقنيات سهلة يمكن تحديد مكانها.
وأضافت في معرض الجولة التي قمنا بها داخل المعهد وأروقته أن التقنيات الحديثة والتفاعل البين تخصصي يمنحنا القدرة على استخراج أكثر ما يمكن من المعلومات من النبات واستعمالها لحل مشاكل اليوم، غير أنها أكدت أن روسيا ضد التعديلات الجينية للبذور والنباتات ، مشددة على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقّع قرارا يمنع التعديلات الجينية على النباتات والبذور.
ويذكر أن معهد فافيلوف، وفق مقالة تأريخية توصلنا بها من إدارة المعهد موقعة من قبل إيغور لوكوتوف وجوليا أوخاتوفا وإلينا خليستكينا تحت عنوان “معهد فافيلوف من مكتب بسيط في الإمبراطورية الروسية إلى المعهد الوطني للأبحاث الجينية حاليا”، هو مركز أبحاث زراعي روسي تأسس سنة 1894، وأصبح يسمى سنة 2015 “معهد عموم روسيا للموارد الوراثية النباتية، ويعتبر حاليا بنكا للبذور يضم حوالي 334000 عينة نباتية تمثل 86 عائلة و 2102 نوعًا ينتمون إلى 425 جنسًا. ويعتبر موطن البذور لحوالي 345000 من الأصناف النباتية، 80 ٪ منها فريدة من نوعها في العالم. ويعتبر أقدم بنك للبذور في العالم ورابع بنك للبذور في العالم.
ويقع المقر المركزي للمعهد وسط سانت بيترسبورغ بروسيا الاتحادية، وهو عبارة عن مبنيين منفصلين بساحة القديس إسحاق، ويتوفر على إثنى عشر محطة منها موقع بافلوفسك الذي تقدر مساحته بحوالي 500 هكتار وهو على مقربة من المدينة بحوالي 30 كيلومترا.
وحسب الوثيقة المذكورة تأسس المعهد عام 1894، وكان مرفقا تابعا لوزارة الزراعة والحقول الروسية من مرافق أكاديمية العلوم الزراعية في روسيا، تحت مسمى “معهد علم النبات التطبيقي”، وابتداء من 1908 بدأت الوكالة الحكومية في جمع النباتات، وفي سنة 1910 التحق نيكولاي فافيلوف بمعهد التدريب في علم النبات التطبيقي، وتضم المعشبة التي بالمعهد حوالي 10 آلاف نوع من النباتات، وفي عام 1920 أصبح بنك النباتات يضم حوالي 50 ألف نوع.
أكبر أزمة عرفها المعهد كانت ما بين 1941 و1944 خلال الحرب العالمية الثانية قام الموظفون والعلماء بتهريب بنك البذور من مدينة العينات الثمينة، وتم وضعها في مكان لحمايتها من الضياع من البرودة ومن الفئران، وفضل هؤلاء الموت جوعا على ضياع هذه العينات.
وغير بعيد عن اللوحة التي تحمل صور العلماء والموظفين الذين قضوا نحبهم خلال الحرب العالمية الثانية توجد لوحة تشير إلى زيارة فافيلوف إلى المغرب.
لا يهتم الروس فقط بثقافة النباتات ولكن بثقافة الاعتراف وحماية الذاكرة الوطنية، حيث تشعر بأن المسؤولين والباحثين كلهم يعرفون تاريخ المعهد لا يمكن أن تسأل أحدا عن تفصيلة تاريخية دون أن يجيبك بإسهاب.