محمد فارس
جلسَ فسلَّم، وصمتَ فترة لا يتكلّم، ثمّ حوْقَل، وكبَّر، واستغفَر، ثمّ استدار صوبي واعتذَر، ثم عبّر بوجه مُكدَّر، واستنكر، ثمّ قال: يا لُطْف الله، هذا ما كتبَ وقَدّر، الفسادُ استقرّ في البلاد وتجذَّر، ولا مَن نهى أو حذّر، ولا مَنِ انتهى أو تدبّر، حتى النِّسْناس استأسَد ثمّ طغى وتجبّر، والصرصارُ من الدّمان انبثَقَ وبرائحتِه تَعطّر ومشى في الأرض هونًا وفي سلوكِه تصنّعَ وتَبخْتَر.. قلتُ: عن أيِّ همّ تتحدث يا عَمّ؟ قال: أهو همٌّ وكفى! هي هموم دَبّتْ كالسّموم فأصابتِ العموم، فما هذا الذي يحدُث في البلاد؟ تحايُل، تمايُل، شِقاق، نِفاق، إخفاق، اختناق، أكاذيب، تكرير الماء وطحْن الهواء، مُزايدات، وفي الأسعار زيادات، ومحروقات أحْرقَت الجلود، ومن قال كلمة حقّ صار هو الخصمَ المنبوذ، واستحال البلدُ إلى سجن، والشّعب فيه مُكلَّل بالأصفاد وشتى القيدو، وتضليلٌ جاد به التلفزيون وأمسى وكأنّه مخدّرٌ أو أفيون، والعطشُ قادِم وللجوع ظفْرٌ قد أطلّ وناب، فما أشدّ الأزمة وما أفدَحَ الـمُصاب، وجلاّدو المواطنِ تشبّثوا بالمناصب كالأوتاد، همُّهم جيوبُهم فيها قلوبُهم، ما هذا السّباق نحو سوادِ الآفاق وكأنّنا بإيزاءِ قيام السّاعة وكأنّ هذه المظاهرَ من علاماتِها، فلم يَبق إلاّ بروزُ الدّابة، وشروقُ الشمس من مغربِها، يا لُطف الله!
قلتُ: ليس لي بهذا الجانب إلمام، لكنّي سمعتُ الحديثَ عنها، وتحذير الناس منها ونقاشاتهم حوْلَها، والله وحدَه يعْلم أخبارها، لكنْ ساعةُ أهل الخُسر سمِعْنا أجراسَها.. قال: إذا أُسنِدَتِ الأمورُ إلى غيْر أهلِها، فانتظر السّاعة.. قلتُ: فأمّا هذه فقد رأيناها، وشهدناها، فهي بادية للعِيان في البرلمان وفي حكومة التّجار والجيب المليَان والبطنُ متخم وهو ما لا تخطئُه عيـنُ أيٍّ كان؛ صار صاحبُ المال يتظاهر بالدّفاع الكاذب عن العمّال، والجاهلُ في القبّةِ يناقش قضايا الباهل وهو ما أسماه رسول الله: الرّويْبِضة، يعني الجُهّال يناقشون سوءَ الأحوال، ويقترحون حلولاً تؤدّي إلى الأزمات والأهوال؛ صار الوزيرُ الخائب هو صاحبَ الرّأي الصّائب، وبالجملة، ازدادت في عصر النائب [القُبّان] المشاكلُ من كلّ الألوان، وما نشاهده من مهازل داخل قاعة البرلمان، ليُذكّرني بجماعة من الباعة، يتزايدون للظّفر ببضاعة، إنّها السّاعة..
قال: وأين هي دابّتُهم وشروُق شمسِهم من مغربِها؟ قلتُ: هاتان العلامتان برزَتا، لكنّكَ في غفلة عنهما، إنّهما تحت أنفِك، لكنْ أعوزَكَ تأويلُهما.. قال: زِدْني من فضلِك، كيف ذلك؟ قلتُ: فأمّا ما كان من أمرِ الدّابة، فقد برزَتْ ولاَكَ الناسُ حديثَها واحتاروا في أمرِها، حيث صارتْ تلهفُ الملايين ولا تحترِمُ أبسَط المعايير، وتكلِّم الناسَ بالقانون والدّيمقراطية، تجلسُ في المكتب مكيّف الهواء، وتسيّرُ أمورَ قطاع، وتدبِّر شؤونَ إدارة، وتتحكّم في أحوال الحارة، وفي الخفاء طاحونة بطنِها دوّارة، يحيطُ بها جرادٌ منه الـمُقيمُ ومنه الرَّحالُ يأتي على الأخضر واليابس لتسوءَ الأحوال، وفي الأيام العصيبة تحصلُ المصيبة، فينعدِم الكفاف، ويغيب العفاف وتكتمِلُ الكارثة بحلول الجفاف، ويعمّ العطَشُ سكّانَ المدن والأرياف، وكلّ صباح، تزدادُ الأسعار، وفي المحروقات يشتدّ الأُوار، وعليك بالحمار لتعودَ إلى الدُّوار.. قال: وطلوعُ شمسِهم من مغربها؟ قلتُ: ألمْ ترَهُمْ كيف يتصرّفون في أرقام نتائجِ الانتخابات، وكيف ينجحُ الفاشل، وكيف يعودُ إلى الوزارة من طرِدَ بالأمس منها وكيف تجودُ الديمُقراطيةُ بِمُسْتَبِدّ ملأََنا يأسًا وبُؤْسًا وتذَمُّرًا؟!