سناء البوعزاوي
قد يصادف البعض منا في ملتقى الطرقات وخصوصا في هذا الشهر الكريم مجموعة من الناس يتظاهرون أنهم ليسوا من المدينة أو ليسوا أبناء البلد، ويستعطفون المارة لإعطائهم بعض الدريهمات لكي يستقلوا الحافلة أو لأجل إدخال الطعام لأطفالهم… تعددت الأسباب والظاهرة واحدة! تجارة التسول التي ما فتئت تفتك بحافات الرصيف وقرب إشارات المرور وبعض الأحيان تعترض سبيل المارة ليكون أشبه ما يكون بابتزاز وفي أحيان أخرى استفزاز إذا لم يبلغ المراد.
ما يحز في النفس هو شريحة الأطفال الصغار، الذين أصبحوا يستغلون لاستجداء الحسنة، واستثارة العواطف، فيجد المار أمامهم نفسه في موقف محرج لا يهدأ بعده البال حتى يضع يده في جيبه ليعطي الطفل أو الطفلة التي أمامه نقودا ظنا منه أنه يدخل عليه الفرحة، ولا ينتبه إلى أنه يصبح بذلك مساهما في استغلال هذا الطفل من قبل العصابة التي تحرضه، أو أسرته التي أصبحت قليلة الحيلة أمام “وحش الفقر” ناهيك عن فئة أخرى من الأطفال الذين يسلكون هذا المنهج من تلقاء أنفسهم دون أن يدفعهم شخص لهذا التصرف، كأن يصبح الطفل مدمنا، بعيدا عن رقابة الأهل، فتصبح هاته الطريقة هي الوحيدة الناجعة لكسب المال السهل ليستطيع بذلك اقتناء ما يريد اقتناءه.
ومن التداعيات الخطيرة التي لا ينتبه لها كذلك، معطي الصدقة للأطفال، أن هذا التصرف يغرس في هذا الصغير كسب المال السهل والبارد، ويلهيه تماما عن التفكير في الدراسة والتلقين ويصبح هذا الطريق أسهل وأقصر لجني المال دون تعب بينما مكان الطفل الحقيقي والقانوني والطبيعي هو مقعد القسم وطلب العلم والتحصيل الدراسي.
فمن الطبيعي، كوننا آباء وأمهات، تنهار عواطفنا أمام طفل يمد يده للمارة أو أم تحمل رضيعها مشفقة تنتظر كرمك وسخاءك معها، لكن من الحزم والوعي أن جل هؤلاء المتسولين جعلوا من هاته الممارسة الاجتماعية مهنة مدرة للربح وفي أحيان أخرى للاغتناء! نعم فقد رصدت كاميرات البرامج الوثائقية، وكذا فضول بعض الناس، أشخاصا تظن لوهلة أنهم معاقون أو معوزون، أو من شدة الفقر يرتدون ملابس لا تمت لكرامة الإنسان بصلة، لكن بعد لحظات وبعد ترقب تراهم في آخر النهار يمتطون سيارات قد توصف بالفارهة، وقد أسفرت بعض التحقيقات عن توفر بعضهم على حسابات بنكية بمبالغ مهمة قد لا يحلم بها من أنهك حياته في العمل الشريف واكتسب ماله من عرق جبينه.
فالمجتمع بكافة أفراده، يجب أن يعي أن السبيل الوحيد لوقف استغلال الأطفال ومنحهم فرصة للالتحاق بمقاعد المدرسة هو الامتناع عن إعطاء المال للأطفال المتسولين والبالغين الذين يستغلونهم ويدمرون مستقبلهم، وبذلك يصبح المواطن غير مساهم بطريقة غير مباشرة في ضياع هؤلاء البراعم الصغار وتفاديهم الانسياق إلى عدة مشاكل وآفات اجتماعية، كالوقوع في براثن المخدرات إلى غير ذلك.
هذا لا يعطينا الحق كمجتمع مدني مقابلة هاته الظاهرة بالشتم أو النهر أو الإهانة في حق هؤلاء الأطفال المتسولين، حيث هناك بعض المارة الذين يستفزهم سلوك التسول من قبل طفل صغير، فيتمادى الشخص إلى أن يصل إلى مرحلة الضرب! وهذا واقع مرير، فلا يجب مقابلة الخطإ بخطإ أكبر منه. فإذا أراد الفرد منا أن يساعد طفلا متسولا، فبكل بساطة لا يعطيه نقودا! بل وإذا كان الشخص كريما، فليعطه نصائح ثمينة يمكن أن تصحي ضميره، وينبذ هذا التصرف بكل لين ولطافة، لأن في نهاية المطاف يبقى الطفل طفلا، ولو أن الظروف كانت قاسية عليه وجعلته مخشوشنا، لكن من الواجب التعامل برفق مع هاته الفئة القليلة الحيلة، وفي رأينا المتواضع، إذا كان بالإمكان وتوفر لديك الوقت وأردت الإحسان، فاصطحبه إلى مطعم بسيط قدم له ولو مشروبا يطفئ ظمأه ولقمة تسد جوعه بعد ذلك حاوره وحاول تقويم اعوجاجه وبين له أن هاته الطريق مظلمة ولن تؤدي به إلى الخير، بل من الضروري أن يبني نفسه بكرامة ليكون بالغا منتجا في المستقبل.
بل حتى ديننا الحنيف يرفض تماما التسول بجميع أشكاله، لكن في المقابل فرض الزكاة والصدقات على الأغنياء، وفي هذا الصدد قد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتسول من دون حاجة بنزع لحم وجهه يوم القيامة، لأن الذي يمتهن حرفة التسول، فهو يأكل أموال الناس بالباطل، ناهيك عن المناظر المخجلة التي نراها خصوصا في شهر رمضان وأيام الجمعة، عندما ترى المتسولين متراصين أمام بيوت الله، وحول المساجد، بل أصبحوا ينجعون طرقا ذكية كأن يقفوا أمام المصارف البنكية الأوتوماتيكية، لإحراج الزبون الذي يستخرج النقود، كأنهم يقولون له بطريقة غير مباشرة: “ليس لك الآن ذريعة، تقول بها إنك لا تملك المال” فهاته العادة لا تطور الإنسان ولا تجعله يعتمد على نفسه بل يعتمد على الآخرين لإعالته وتنمي الاتكالية لديه وهذا يضر كذلك أمن واستقرار البلد ويشوه صورة المجتمعات ويسيء للدين، ففي السياق نفسه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لإن يحمل أحدكم حبله ويحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه”، وفي رسولنا الكريم إسوة حسنة، يريد بهذا الحديث، أن من تجد له القدرة والقوة على العمل والكسب الحلال، فلا يجوز إعطاؤه إلا إذا ضاقت به المسالك، بينما السؤال أو المسألة أو طلب المال يجوز لثلاثة فقط:
– لذي فقر مدقع وهو الفقر الشديد وأصله من الدقعاء وهو التراب، في ما معناه الفقر الذي يفضي بالإنسان إلى التراب.
– أو لذي غرم مفظع، أي أن تلزمه الدية الفظيعة الجامحة.
– أو لذي دم موجع، كتحمل الدية، فترهقه وتوجعه فتحل له المسألة.
فلحصر هاته الظاهرة علينا أن نحكم العقل الذي حبانا الله عز وجل به وألا نترك العاطفة تؤدي بطفل إلى التهلكة فإذا توفر للإنسان طريقة يفيد بها إنسانا آخر في حاجة ليس فقط بالوعظ والإرشاد المجرد، والتنفير من المسألة فقط، بل إذا كانت إمكانية إتاحة فرصة عمل أو نقط توجيه إلى جمعيات تعنى بهاته الشريحة من المجتمع، وحبذا لو يكونون كثرًا، يقفون على قدم وساق لتنقية المشهد المجتمعي من هاته المعضلة، فعلى الإنسان أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت، وأن يستفيد مما يملك من الحيل وإن ضؤلت، فلا يلجأ إلى السؤال وعنده شيء يستطيع أن ينتفع به في تيسير عمل يغنيه لقوله صلى الله عليه وسلم “خير الكسب عمل الرجل بيده وكل كسب مبرور”.