تشهد أسواق اللحوم الحمراء في عدد من المدن المغربية حالة من الارتباك وعدم الاستقرار، إذ باتت الأسعار تتأرجح بشكل مفاجئ ومتكرر بين الارتفاع والانخفاض، في ظل غياب آلية واضحة لضبط السوق أو توجيه المستهلك. هذا التذبذب السريع في الأسعار، خلال فترات زمنية وجيزة، يطرح تساؤلات عديدة حول الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، ويثير قلق المهنيين والمستهلكين على حد سواء.
في الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون السوق خاضعًا لقواعد العرض والطلب، فإن المعطيات المتوفرة تشير إلى وجود عوامل أخرى تُسهم في تقلب الأسعار، بعضها مرتبط بمعلومات مغلوطة وأخرى تتصل بخلل في آليات الرقابة والتسعير، و اكد البعض أن السبب الرئيسي وراء هذا الاضطراب يعود إلى تفاوت العرض والطلب من منطقة إلى أخرى. ففي الأسواق التي تشهد وفرة في العرض، تنخفض الأسعار بشكل نسبي، بينما ترتفع في مناطق أخرى تعاني من محدودية الكميات المعروضة. ويفسر ذلك بأن السوق المحلي يتأثر بسرعة بأي تغيير في الكمية المتوفرة أو في نمط الطلب، وهو ما ينعكس مباشرة على التسعيرة اليومية للحوم، و أن أسعار لحوم الأبقار تُعد مستقرة نسبيًا على المستوى الوطني، إذ تتراوح ما بين 80 و90 درهمًا للكيلوغرام، مع ملاحظة أن اللحوم المستوردة تُباع عمومًا بسعر 80 درهمًا، أي أقل من اللحوم المحلية. هذا الفارق في السعر بين اللحوم المستوردة والمحلية لا يخلو من تأثير على دينامية السوق الداخلي، حيث تصبح اللحوم الأجنبية خيارًا مغريًا من حيث الكلفة، رغم التساؤلات التي قد تُثار بشأن جودتها.
أما بالنسبة للحوم الغنم، فهي تختلف حسب نوع الذبيحة وحجمها ونسبة الدهون فيها، وتتراوح أسعارها غالبًا بين 70 و80 درهمًا للكيلوغرام. ويلاحظ أن اللحوم ذات الدهون المرتفعة تميل إلى الانخفاض في السعر مقارنة بتلك التي تتميز بجودة أكبر من حيث اللحم الصافي.
و من العوامل الطارئة التي ساهمت مؤخرًا في رفع الطلب على اللحوم، انتشار إشاعة تفيد بإغلاق المجازر لمدة 15 يومًا خلال فترة عيد الأضحى، وهو ما خلق حالة من الهلع لدى شريحة واسعة من المستهلكين، رغم نفي الجهات الرسمية لهذا الخبر. هذا التخوف، وفق ما أوضحه عادل الأشهب، دفع العديد من المواطنين إلى شراء كميات كبيرة من اللحوم وتخزينها في المجمدات، ما تسبب في ارتفاع الطلب بشكل مفاجئ خلال فترة قصيرة.
ويتوقع الأشهب أن تعرف الأسعار ارتفاعًا إضافيًا خلال الأيام المقبلة، خصوصًا مع اقتراب مناسبة عيد الأضحى، التي تشهد عادة ضغطًا كبيرًا على سوق اللحوم، إلى جانب تزامنها هذه السنة مع موسم الحج، والعطلة الصيفية، وعودة الجالية المغربية المقيمة بالخارج، ما سيزيد من حدة الطلب ويُرجح استمرار تصاعد الأسعار.
رئيس الجمعية الإقليمية للجزارين، يؤكد بدوره في تصريحات اعلامية، أن قطاع اللحوم الحمراء يعاني من فوضى حقيقية في السنوات الأخيرة، خصوصًا على مستوى تسعير المنتجات وضبط الجودة. ويشير إلى أن التحكم في السوق لم يعد مقتصرًا على التوازن الطبيعي بين العرض والطلب، بل دخلت أطراف تحاول التأثير في توفر بعض الأنواع من اللحوم، لا سيما مع تنوع مصادر اللحوم بسبب الاستيراد الخارجي ولفت إلى التراجع الكبير في مؤشرات الجودة التي كانت معتمدة سابقًا، حيث كانت اللحوم تُختم بأربعة ألوان (الأخضر، الأزرق، الأحمر، والأسود)، كل لون يشير إلى درجة معينة من الجودة. أما الآن، فقد تم توحيد الأختام في لون بني واحد مع مستطيل أحمر، ما زاد من غموض المعايير لدى المستهلكين، وساهم في تراجع ثقتهم بالمنتج المعروض في الأسواق.
كما شدد على أن تحديد الأسعار في الماضي كان يتم عبر “المحتسب”، الذي يحدد التسعيرة وفق معايير دقيقة تأخذ بعين الاعتبار تكاليف الإنتاج وظروف السوق، وهو نظام كان يُلزم الجزارين بعدم تجاوز التسعيرة الرسمية. اليوم، ومع غياب هذه الآلية، أصبحت الأسعار تخضع لمضاربات حرة، ما أخرج الأمور عن السيطرة، بحسب تعبيره.
ووجّه دعوة إلى ضرورة إعادة الاعتبار للإنتاج المحلي، من خلال دعم الكساب الصغير وتوفير الأعلاف تحت مراقبة صارمة. كما شدد على أهمية فرض رقابة حقيقية على عمليات الاستيراد والتسويق، بهدف إعادة الثقة إلى السوق وضمان استقرار الأسعار وجودة المنتجات، وأضاف أن استمرار الفوضى الحالية من شأنه أن يُعمق الفجوة بين المستهلك والمنتج، ويؤدي إلى مزيد من التوتر الاجتماعي المرتبط بالقدرة الشرائية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها العديد من الأسر المغربية.
و في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن سوق اللحوم الحمراء في المغرب يقف أمام مفترق طرق حاسم؛ إما المضي نحو تنظيم محكم يعيد الثقة للمستهلك ويُحقق التوازن بين العرض والطلب، أو الاستمرار في حلقة من الفوضى التي تُغذي المضاربات وتُرهق القدرة الشرائية للمواطنين. وبين هذا وذاك، تبقى المغالطات المنتشرة والمعلومات غير الدقيقة واحدة من أبرز العقبات التي تتطلب معالجة عاجلة، بالتوازي مع إصلاح بنيوي شامل للقطاع.