محمد فارس
إذا كان [الطّبالون] والنّافخون في المزامير يَستعدّون لإحياء ذكرى نكبة [20 فبراير]، التي يسمّونها (ثورة)، فإنّ جلالة الملك (محمّد السادس) قدِ اسْتبق ثورتهم المزعومَة بثورة اجتماعية أعادتِ الأملَ والبسمة إلى المسحوقين، والكادحين الّذين ما تحدّثَ عن همومهم لا حزْب، ولا نقابة، ولا برلمان، ولا مستشارون، ولا حكومة حتى، وأعني بهم الحِرفيين الذين كانوا يَئِنّونَ في صمْت، ويعانون ولا أحد سمع أنّاتِهم، ولا طَرح يومًا انتظاراتهِم، لأنّ هذه الأحزاب تهتمّ بمصالحها وبمستقبل أبنائها وتستعمل أصوات الشّعب لبلوغ أهدافِها؛ لكنّ جلالة الملك، أعلن ثورةً اجتماعية، ردّ بها الاعتبار لهؤلاء الـمَنسيين من صنّاع، وحِرفيين، وفلاحين صغار، وقسْ على ذلك.. كان الحِرفي يَشتغل طولَ حياتِه وحتى في شيخوخته إلى أن يَهِنَ عظمُه ويرشى عودُه، فيذهب إلى ركنٍ من أركان بيته، وكلّه أمراض، وآلام، ومعاناة، حتى يأتيه ملكُ الموت ليريحَه من متاعب الحياة ومعاناة الوجود، ولكن بثورة اجتماعية عادتِ البسمةُ إلى الحِرَفي، وإلى سائق سيّارة الأجرة، وغيْرهم من الـمَنْسيين والمنبوذين في هذا المجتمع..
لكنْ قبل هذه الثّورة الاجتماعية، سبقتْها ثورة صحّية، عندما أعلن جلالتُه، وأعطى تعليماتِه كي يَشمل التلقيحُ كافّة أفراد المجتمع بشكل شامل وفوري ومجّاني، وبذلك، نسي الشعبُ ذكرى نكبة (20 فبراير)، وبارك ثورة جلالة الملك، وقد قلْنا في مقالة سابقة حوْل مفهوم (الثورة) إنّ أيّ ثورة حقيقية يقوم بها إمّا الشّعب، أو ملِك عادِل ونزيه، وذَكرنا أنّ كلّ حركة تؤدّي إلى تغيير جذري في المجتمع، فهي بمعنًى ما، ثورة، فتقول: الثّورة الصناعية، والثّورة الثقافية، والثّورة الاجتماعية، ونحن اليوم، نعيش ثورةً اجتماعية وثورةً صحّية بفضل حِكمة وسداد رأي جلالة الملك، ولا فضْل لأحدٍ ممّن اعتادُوا سرقة أفضال جلالتِه لينسبُوها كذبًا إلى أحزابهم ونقاباتهم؛ فهذه الثّورة كانت مفاجئة للجميع، لذلك صار من الصّعب عليهم أن ينسبوا أفضالها إليهم، وكيف سَيسرقون هذه الثّورة الملكية الـمُباركة، وحزبُ العدالة والتّنمية خصَم من تعويضات الـمُتقاعدين، وكلّ مرة يذكّر بأنّ صناديق التقاعد آيلة للإفلاس..
هذه الصّناديق تمثّل استقرار، وشرف البلاد، وكرامة العباد، وبذلك تُعْرف البلدانُ المحترمة التي تهتمّ بالإنسان وبقضاياه عكْس البلدان التي تعجُّ بأحزاب الرّيع التي تَعتبر المواطنَ مجرّد ورقة في [يناصيب الانتخابات].. لذلك، فهذه الأموالُ التي تُدفَع إلى الأحزاب، كان من المفروض أن تذهبَ إلى صناديق الطّمأنينة والاستقرار، ومحاربة الفقر، وتوفير الكتُب والدّفاتر بالمجّان لأبناء الفقراء، والمتقاعدين، ومنعدمي الدّخل.. كان من المفروض خلقُ ثورة اجتماعية ومالية للحدّ من الامتيازات والأجور المرتفعة، والمهمّاتِ المختلفة لشخصٍ واحد كما هو شأنُ بعض أعضاء حزب (البيجيدي).. كان من الواجب الحدُّ من التّعيينات في مناصبَ عليا كما يفْعل كلّ أسبوع [العثماني] وقبلَه [بنكيران].. كان من الواجب حذْفُ كلّ أشكال الامتيازات التي يتمتّع بها دون موجِب حقّ نواب، ومستشارون، ووزراء، وكتّاب دولة وآخرون لا نَعرفهم وما أكثرهم في بلد [المال السّايب]؛ فنحن الذين عوّدناهم على الرّيع، والامتيازات، والأجور الباهظة، حتى صار ذلك في عرفهم سنّةً مؤكّدة، ثم قانونًا ثابت الأركان..
فأيُّ أمّةٍ تطمح إلى الرّقي والازدهار والحفاظ على الاستقرار، فأوّل ما تَفعله هو الحفاظُ على أموالها وعلى ثرواتها من النّهب والسّلب والتبذير الفاضح والواضح؛ كان من الواجب مطالبة المستشارين بردّ ما وزّعوه بيْنهم من مساهمة الدّولة تحت طائلة حلّ مجلس المستشارين ومسْحه من خارطة السّاحة السّياسية ببلادنا، مع العلم أنّه مجلس زائد عن الحاجة، وما زاد عن الحاجة، فهو سرقة.. كان من المفروض حلّ عدّة أحزاب لا فائدة من بقائها، وإذا أرادتِ البقاء، فعليها أن تُنفِقَ من مالها الخاص على الانتخابات وإلا حلّتْ نفسَها بسبب عجْزها المالي؛ فالمال الذي يُدْفَع هدرًا إلى هذه الأحزاب، الشّعبُ أولى به وأحقّ.. كان من الواجب، عدمُ التّساهل مع المتهرّبين من أداء الضّرائب، وإلاّ صودرَتْ أملاكُهم أو مُنِعوا من أيّ نشاط يذرّ أموالاً طائلةً، فيما المواطنُ المسحوق والبسيط هو الذي يؤدّي الضّرائب، وهذا ليس بعدالة؛ وهذا هو السّبب في فقْر الدولة، وفي عجْز الصّناديق الاجتماعية؛ وهذا هو ما يؤدّي إلى سوء أحوال التعليم، والصّحة، وتداعي البنى التّحتية في المدن والقرى، لأنّ هذه الأموال تسير إلى بطون وجيوب أناس لا نفْع فيهم للأمّة.. وهذه في الواقع الثّورات التي ننتظرها في هذا البلد، وهي ثوراتٌ ستجنّب بلادنا كوارثَ، ومآسي تشرئبُّ بأعناقِها وراء الأفُق، ولكنّها واصلة إلينا لا محالة إذا نحن تجاهلْنا هذا الواقع الـمُريع؛ التاريخُ يؤكّد ذلك، ويحذّر منه ثم ويْلٌ لـمَن تجاهل مكْر التّاريخ، أي والله!